أضواء على معالم الطريق

أضواء على معالم الطريقبقلم: الدكتور محمد حامد عليوة

نستعرض هنا بعض المعالم الدعوية والمعاني التربوية التي نحتاج إليها في سيرنا على طريق الدعوة، وهي بمثابة أضواء نسلطها على بعض جوانب العمل والحركة بهذا الدين، ونسير بها  مبصرين واعين وفق هدي القرآن الذي يرشدنا إلى ضرورة البصيرة بطريق الدعوة، (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)). يوسف

والبصيرة هنا عامة وردت بصيغة التنكير (بَصِيرَةٍ)، وهو ما يوسع مجالاتها ويُعدد ميادينها، وبالتالي نجدها تشمل على ما يلي: –
البصيرة بغاية الطريق وأهدافه وكيفية السير الصحيح عليه.
البصيرة بمعالم الطريق وطبيعته، وما عليه من مشاق ومتاعب، وما عليه من عقبات، وما فيه من منعطفات.
البصيرة بمنهج الدعوة الذي ندعو الناس به وإليه، وطبيعة الرسالة التي نُريد إبلاغها للناس.
البصيرة بمكايد شياطين الأنس والجن الذين يتربصون بنا الدوائر على هذا الطريق، والوعي بمخططاتهم وأساليب مكرهم بالدعوة والدعاة.
البصيرة بصفات وأخلاق وعادات وطباع من نتحرك فيهم بهذه الدعوة، والإحاطة بمشكلات المجتمعات وجوانب التميز والقوة فيه، وفرص الدعوة والحركة خلالها.
البصيرة برفاق الدرب وأصحاب الطريق، ومن يعملون معنا في هذه السبيل، حتى نحقق الوحدة الدافعة والتكامل النافع بين الجهود والأعمال، فنتحرك جميعًا نحو هدف واحد، في حالة من التعارف والتفاهم والتكافل.
وغيرها من جوانب البصيرة العامة المقصودة في هذه الآية الكريمة.

وفيما يلي بعض الوقفات التربوية والإضاءات الدعوية على معالم طريق الدعوة:

1- مما يستلزمه السير الصحيح على طريق الدعوة (وحدة المشاعر وقوة الأواصر)، وارتباط القلوب وحُسن الصحبة. فالصاحب هو الملازم للشيئ لا يتركه ولا ينعزل عنه ولا يتخلى عنه في شدة أو رخاء، هو الوفي لمن يصاحبه الباذل من أجله، وهكذا يجب أن يكون أصحاب الدعوات مع دعوتهم حتى يستحقوا معني المصاحبة.

وشرط الصحبة الملازمة والمداومة، وعدم الهجر والتخلي، كذلك ينبغي أن يكون أصحاب الدعوات مع دعوتهم. ومن شروط الصحبة أيضا أن تحمل همّ من تصاحب، وتنشغل به، لا يجدك حين يحتاج إليك فحسب، ولكن تأتيه قبل أن يأتيك، كذلك ينبغي أن تكون مشاعر أصحاب الدعوات تجاه بعضهم. 

2- ويلزم السائرون على طريق الدعوة حالة من (صفاء النفوس وسلامة الصدور)، لأن الجماعة المسلمة في حركتها الدعوية وجهودها الإصلاحية قد يتولد بين بعض أفرادها العاملين – نتيجة الاحتكاك والتفاعل الداخلي – حالة من السخونة في العلاقة قد تتطور إلى حالة من الخشونة.
وهذه الحالة البشرية في العلاقة والاحتكاك إن لم تراعى مبكرًا بملطفات أخوية ومعالجات تربوية، فإنها قد تتسبب في تعكير صفو النفوس، وإضعاف الوشائج والعلائق الأخوية.
وإن أُهملت حتى تتسع رقعتها، وتتنوع آثارها، ويعظم في النفوس وقعها؛ فإن أثرها على الصف والجماعة يكون كبير وخطير.

3- لابد أن تتلازم الرؤية الصحيحة والبصيرة الواعية لدى الدعاة بالعمل الجاد والحركة المثمرة، دون انفكاك بينهما. والسبب في ذلك: أنه كلما تنوعت حركة الفرد واتسعت خطواته في العمل مع غياب الفهم الصحيح والرؤية الواضحة فإن ذلك سيؤدى حتماً إلى: إما الانحراف عن المسار الصحيح، أو الابتعاد عن الأهداف وبلوغ الغايات، أو تشتيت للجهود وتضييع للفرص السانحات، بل ربما تؤدى هذه الحالة – عند استفحالها وانتشارها – إلى تقسيم الصف المسلم العامل وتصدع بنيانه (لا قدر الله ذلك).

والعكس صحيح إذا وجدت الرؤية لدى الفرد مع غياب العمل وانتشارالخمول والكسل، وساد في حقل الدعوة الجدل، وحل التنظير محل العمل، فإن ذلك سيؤدى بلا شك إلى نتائج – غير مرجوّة – قريبة من سابقة الذكر. فلا بديل إذاَ عن الملازمة بين الرؤية الصائبة والحركة الدائبة.

4- ضرورة تواصل الجهود وتتابع الأعمال على طريق الدعوة، لأن التكوين الدقيق وكسب الأنصار وتكثير السواد على طريق الدعوة لا يتحقق دون تراكم للأعمال وتتابع للجهود، فما سالت أودية إلا من تتابع نزول القطرات، وما أشتعلت النيران إلا بتتابع القدح وتوالد الشرر، فكم من جهود عظم أثرها وتعدد نفعها مع صغر حجمها، وذلك بمدى توفر الإخلاص والإتقان فيها، والديمومة عليها.

5- من حقائق الواقع وعِبَرُ التجارب؛ أن الجالس على الأرض لا يسقط، والذي لا يعمل لا يُخطئ، أما العاملون في الميدان، المجتهدون في السير؛ فمعرضون للخطأ كونهم بشر غير معصومين، ولن يُحرموا أجر الاجتهاد إن لم يُصيبوا.
والأصل في التعامل مع إخواننا من أهل الجهد والفضل والسبق؛ أنهم محل ثقتنا، ومن حقهم علينا: (الدعاء الخالص – النصح الدائم – والتماس العذر – والعون على الأمر).

6- نحتاج إلى التوازن بين زاد الفرد وحركته على الطريق، فقد تتسع حركة الفرد وتتنوع مع قلة الزاد، وهذا أمر خطير وعواقبه وخيمة. فالتربية الصحيحة الفاعلة (تلقي وعطاء)، كما أنها (زاد وحركة)، ولنا في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) و قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أوضح البيان وأصدق الدليل. وعمليًا ربَّى النبي محمد أصحابه فكانوا (رهبانًا بالليل فرسًا بالنهار).

وقد أوصى الإمام حسن البنا إخوانه بذلك فقال: «يا أخي: اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار».
و هكذا يجب أن نكون، نتزود لنتحرك، وننهل لنفيض، ونمتلك لنعطي، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن تحرك كثيرًا مع قلة الزاد سرعان ما يتوقف ويتعطل، وربما أهلك نفسه، وأفسد فيمن حوله.

من هنا كانت التكاليف الفردية هي المقدمة والأساس لأداء الواجبات الاجتماعية، أو بمعني آخر صلاح الفرد مع ربه هو الدافع والأساس لنجاحه في فعل الخير بمجتمعه، وكلا الأمرين (الصلاح والإصلاح) هما طريق الفلاح. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)﴾ سورة الحج

7- ونحن نسير على الطريق لابد أن نقف أمام حقيقة دامغة وسُنة واقعة؛ وهي حقيقة تنوع نفوس البشر وطبائعها ومشاربها، سواء كان هؤلاء إخواننا العاملين معنا على الطريق، أو أقوامنا ومجتمعاتنا التى نعيش فيها ونعمل للدعوة خلالها. الأمر الذي يجب أن يقف أمامه المربي والداعية، ويعتبره ولا يتجاوزه، وبالتالي كان عليه أن ينوع من أساليب التربية وطرائق التوجيه، فلكل شخصية مفتاحها، ولها من الآساليب ما يناسبها، ولهذا تنوعت أساليب وطرائق التربية التي اعتمدتها نظريات التربية الحديثة، لتتوافق مع هذه الحقيقة التي نستنتجها من هدي رسولنا العظيم.
عن أبي موسى، عن النبي قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض، والأحمر، والأسود، وبين ذلك، والخبيث، والطيب، والسهل، والحزن، وبين ذلك». رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان في صحيحه.

8- ومن معالم طريق الدعوة، تعاقب الأجيال عليه؛ ليتبع كل جيل الجيل الذي سبقه، وليهيِّئ الأجواء للجيل الذي يأتي بعده، في تعاون وتكامل وتكاتف وتآزر، حتى يأتي وعد الله بالنصر والتمكين لدينه ودعوته وأوليائه.

والسالكون لطريق الدعوة ما بين سابق ولاحق؛ (سابق) أكرمه الله بالسبق والصدق والثبات على الطريق؛ فكان سببًا في دعوة الناس إلى الهدى والرشاد بثباته وصدقه وتضحياته، فمهَّد الطريق لمن تبعه، وقطع خطوات على الطريق لمن لحق بركب دعوته. (ولاحق) أكرمه الله بالسير على طريق الرشاد فكان ثمرةً من ثمار جهد وصدق وتضحية من سبق؛ وبالتالي وجب عليه استكمال السير والبناء على ماسبق، والنهوض بالعمل تمهيداً لمن يخلفوه على الطريق، هكذا موكب الدعوة المباركة، أجيال تتوارثها أجيال.

ومما يجب الإشارة إليها هنا، أن احترام الكبار من لوازم الإيمان «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» الترمذي، وأن احترام الكبار وتقديرهم من أسس الأخلاق ومظاهر التربية أيضا، فما بالنا إذا كان هؤلاء الكبار من ذوي السبق إلى الدعوة، ومن أهل الصبر والثبات، ألا يستحقون منا أن ندعو لهم؟ كما أمرنا المولى عز وجل في قوله (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَأنِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَأنِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (10)) الحشر.

9- يا رفيق الدرب وحبيب القلب: لا يضيرك في سيرك على طريق الدعوة وأنت تعمل لله مع أهل الصلاح وزمرة الحق؛ تحت إمرة من تعمل، طالما حزمت أمرك، وبذلت جهدك، وأخلصت عملك، ونصحت لربك.
ولكن انشغل بـ (لمن تعمل؟ – وماذا تعمل؟ – وكيف تسهم في تحسين ما تعمل؟ – وكيف تعين من أمامك ومن خلفك على العمل؟ – وكيف تسد ثغرات صفك ولا تدع للشيطان فُرجة بينك وبين إخوانك؟ – وغيرها).

10- وختاماً: الزم الطريق عاملًا باذلًا، وسر في ركب الأتقياء الأخفياء، ولا تلتفت لمن تمحور حول نفسه وإن علا صوته وذاع أمره، فهو ظاهرة صوتية لن تدوم، ولا تنشغل بمن تنكب الطريق أو انحرف عن الجادة مهما كان قدره وكثر حشده، فسرعان ما ينزوي ويذوب، فدعوتنا دعوة مبدأ لا تقبل الشركة ولا يصلح لها إلا من أحاطها وأخلص البذل لها.

والأخ الصادق على طريق الدعوة بين حالين متواصلين متلازمين:
رجل يؤدى دوره.
رجل يتجهز لأدائه. (باستكمال نقصه وتجهيز عُدته وأخذ أُهبته) روحياً وفكرياً وبدنياً وعملياً.
ورحم الله الإمام حسن البنا حين قال: «والخفي في هذه السبيل خير من الظاهر».

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

اترك تعليقا