التربية الجهادية

التربية الجهادية
بقلم: الشيخ محمد عبد الله الخطيب، – رحمة الله عليه –  من علماء الأزهر.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أصحابه ومن والاه وبعد.
جاء في الحديث: «من سمع بي وسرَّه أن يراني فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر؛ لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه اليوم المضار وغدًا السباق والغاية الجنة أو النار» (ابن حبان في الثقات والطبراني في الأوسط).

الجهاد في سطور:
ذكر الإمام ابن القيم – رحمه الله – أن الفقهاء اتفقوا على أن جنس الجهاد فرض عين، أي ملزم لكل مسلم ومسلمة؛ إما بالقلب أو باللسان أو بالمال أو باليد؛ فعلى كل مسلم أو مسلمة أن يجاهد بنوعٍ من هذه الأنواع، أما الجهاد بالنفس فهو فرض كفاية، ويصبح فرض عين في حالات ثلاث:
1- إذا أُعلنت التعبئة العامة.
2- إذا غزا العدو بلاد المسلمين.
3- إذا وُجد المسلم أو المسلمة في أرض المعركة.

* الجهاد أعظم ركن في الإسلام بعد الشهادتين؛ لأنه الدليل على وجود الغيرة والحميَّة الدينية وحب الدين عند المسلم، وهو بمعناه العام يتناول حياتنا كلها من أولها إلى آخرها، وهي حلقات ومراحل، وأي خللٍ فيها قد لا يؤدي إلى المطلوب.
* إن الطريقَ طويل، وعقباته كثيرة، ومزالقه خطيرة، ولا بد لمَن يسير عليه من إعداد نفسه بالصبر والمصابرة والتعود على الاحتمال والتضحية، وأن يخرج من حظ نفسه وأن يطارد وساوس شياطين الإنس والجن.
* الجهاد ضروري لبقاء الأمة الإسلامية أمة قوية مرهوبة الجانب بعيدةً عن أطماع الطامعين والحاقدين، كما أن الجهاد بالنفس دليل قاطع على إيمان المسلم ومبادرته إلى ما يحبه الله ويرضاه؛ ولهذا وبَّخ الله من يتقاعس عن الجهاد فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ (التوبة: 38).
* من الجهاد المبرور أن يظل الأخ عاملًا في سبيل غايته مهما بَعُدَت الشُّقة وطال الزمن حتى يلقى الله على ذلك، والطريق طويلة المدى، متعددة المراحل، كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل الثواب.
* الجهاد فريضة الله الماضية إلى يوم القيامة، وهو ركن أساسي في العقيدة الإسلامية، بل هو ذروة سنام الإسلام وقبته، وهو من مهمة المسلمين ومسئوليتهم كحمَله رسالة للعالمين. مهمتهم في الدعوة إلى الله الممتدة في هذا الكون ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (يوسف: من الآية 104).
* الجهاد هو بذل الوسع والطاقة في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة المجتمع الإسلامي، وبذل الجهد بالمرابطة والقتال في سبيل الله نوعٌ منه، بل ذروة سنامه.
* غاية الجهاد إقامة المجتمع الإسلامي وتكوين الدولة الإسلامية الصحيحة، (لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى).
* طبيعة الدعوات الحقة لا يمكن أن يقع بينها وبين فريضة الجهاد قطيعة أو تباعد؛ لأن الجهاد من خصائصها، وهو سبيلها وطريقها، بل هو سر حياتها وسر وجودها، وعلامة ذلك رفض المواءمة دائمًا بين المثل العليا التي تحملها الجماعة وشهوات الناس الدنيا، كما ترفض دائمًا الجري وراء المرونة أو الكياسة واللباقة؛ لكي يأنس بهم أهل الباطل ويتلاقوا معهم في منتصف الطريق على أنصاف الحلول، فلا تنازل عن شيءٍ من العقيدة، ولا مساومة على الإسلام.
* إن أصحاب الدعوات الحقة لا ينتظرون كلمة ثناء من مخلوق؛ لأنهم يحرصون على مرضاة الله وحده، كما أنهم يدركون أن الدعة والقعود من الأمراض الخطيرة على الدعوات، كما أن السكون والراحة من أثقل الأشياء على أخلاق وطباع الدعاة والمصلحين على أنفسهم.
* علامة المجاهد الحق: أنه دائم التفكير، عظيم الاهتمام، غدوُّه ورواحُه وحديثُه وكلامُه وجِدُّه ولعبُه لا يتعدَّى الميدان الذي أعدَّ نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته؛ يجاهد في سبيلها.
* أول مراتب الجهاد إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة حق عند السلطان الجائر، وبقدر سمو الدعوة وسعة عظمتها تكون عظمة الجهاد في سبيلها وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها وجزالة الثواب للعاملين.

مراتب الجهاد:
أولاها: جهاد النفس على تعلم الحق ومعرفة الهدى؛ معرفة الحلال والحرام، وإلزامها طاعة الله عز وجل.
إن من حق الله علينا أن يُطاع فلا يعصى، وأن يُذكَر فلا ينسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر؛ فلا بد من جهاد النفس لتسلم قيادتها لربها كما قال النبي : «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى عنه» (أخرجه أحمد).

وفي حجة الوداع قال : «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (رواه ابن حبان والحاكم).
هذه البداية الصحيحة للجهاد، ومن بدأ بغير هذا في جهاد نفسه وتربيتها فقد حاد عن الطريق، وعرض نفسه للضلال والانحراف، فلا بد لمن يريد أن يصلح نفسه بحق أن يلتزم منهج الله كتابًا وسنةً.
المرتبة الثانية: مجاهدة النفس على العمل بما علمت، وإلا فمجرد العلم فقط بلا عمل يضر لا ينفع، بل يتحوَّل الإسلام إلى مجرد ثقافة وفكر، أما التطبيق والتنفيذ فهيهات أن يصل إليهما إلا من جاهد نفسه على العمل والالتزام، وهذا هو منهج الصحابة.
ذكر الإمام ابن تيمية عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن (عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما) أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: (أي الصحابة) «فتعلَّمنا العلم والعمل»، وقيل: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم.
المرتبة الثالثة للجهاد هي: أن يجاهد المسلم نفسه على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله، وهذه مرتبة من الجهاد عظيمة، خاصةً حين يعم الفساد وينتشر اللهو ويغيب حكم الله في الأرض، ويضرب إبليس بخيله ورَجله، وتحل الغفلة؛ فالموقف (جهاد الدعوة) لا هوادة فيه وصبر على المشقات والأذى والمضايقات، وعدم الركون أو التقاعس، والثقة الكاملة بالحق الذي يحمله، والمآل الذي يصير إليه المجاهدون في سبيل الله إعلاء كلمة الله.

المرتبة الرابعة: جهاد الشيطان، وهي كما يقول الإمام ابن القيم على مرتبتين: جهاده على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، والثانية جهاده على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
ثم يقول: فالجهاد الأول: يكون اليقين، والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (الساجدة: 24).
والحق تبارك وتعالى حذَّرنا من أساليب هذا العدو، وأمرنا بإعلان الحرب عليه، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (40)﴾ (الحجر)، وقال سبحانه: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ (البقرة: من الآية 268).
ولقد حذَّر الرسول من هذا العدو في كثيرٍ من الأحاديث، فقال: «إن للشيطان لُمَّةً (1) بابن آدم، وللملك لُمَّة، فأما لمَّة الشيطان فإيعاد بالبشر وتكذيب بالحق، وأما لُمَّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق؛ فمن وجد من ذلك شيئًا فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان»، ثم قرأ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 268) (أخرجه الترمذي).

وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيِّقوا مجاريَه بالجوع».
يجب سد مداخل الشيطان من هوى وشهوات وغرور وحب كثرة الأتباع والشهرة بالتحرر من الهوى والبُعد عن مواطن الشهوات والانسياق وراءها؛ فهي الهاوية، وقد ورد في الحديث عن رسول الله : «إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق: قعد له طريق الإسلام فقال: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: أتهاجر؟ أتدع أرضك وسماءك؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل وتُنكَح نساؤك ويقسم مالك؟ فعصاه وجاهد”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن فعل ذلك فمات كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة».
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201).
ويقول الإمام ابن القيم عن جهاد الكفار والمنافقين إنه أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال والنفس.
وجهاد أصحاب البدع وأرباب الظلم والمنكرات ثلاث مراتب: باليد إذا قدر؛ فإن عجز انتقل على اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
ثم يقول رحمه الله: «فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، و«من مات ولم يَغْزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» (2)، ثم يقول: «ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 218)».
إن التزام المسلم بهذا الفهم للجهاد هو الذي يجعله ينهض بأعباء الجهاد إن صدق في هذا الالتزام، إنه يفسد كل مخططات إبليس، ويفسد خيوط مؤامراته، ويستطيع أن يحرر غيره من شباكه التي يزينها (الاختلاط، المتعة، التحرر من الأخلاق، الاستمتاع المحرم، العري الجنس …)، وتنجو الأمة من الوعيد الذي هدَّدها به الحق تبارك وتعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(الأعراف: 146).
لقد حثَّ الشارع على جميع تلك الأنواع، وأمر بكل نوع من أنواعه؛ لارتباطها الوثيق، والمراتب التي ذكرها الفقهاء للجهاد في مجموعها متكاملة؛ يقود بعضها بعضًا، وكل مرتبة منها تحقِّق هدفًا من أهداف الإسلام، وكلها تتدافع لتحقيق الغاية العليا للدعوة الإسلامية، وهو تحقيق العبودية لله في داخل النفس وفي خارجها وفي واقع الحياة وفي دنيا الناس. قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾ (الحج: من الآية 78).

يقول الإمام ابن القيم: «ولمَّا كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا من جهادِ العبدِ نفسَه في ذات الله كما قال النبي : «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». كان جهاد النفس مُقدَّمًا على جهاد العدو في الخارج، وأصلًا له؛ فإنه ما لم يجاهد نفسه أولًا؛ لتفعلَ ما أُمِرَت به، وتتركَ ما نُهيَت عنه، ويحاربها في الله، لم يكن جهاد عدوه في الخارج» (3).

إن أنواع التضحية في سبيل الله تتفاوت في الدرجة والمكانة، قال تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 95).
ودرجة الرباط في سبيل الله أفضل من العبادات، جاء في الحديث: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خيرٌ من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وأجري عليه رزقه من الجنة وأُمن الفتَّان».
ويقول أبو هريرة: «لأن أرابط في سبيل الله أحبُّ إلىَّ من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود».
والحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، يشير إلى أن المرتبة الأولى تضحية أكبر من المرتبة الثانية والثالثة، وأقل هذا الجهاد باللسان، ثم الجهاد بالقلب؛ ولذلك كان أضعف الإيمان، وليس معنى بالقلب أنه ضعيف، بل عمل القلب ضروري، وهو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، والقلب إذا لم يعرف المعروف ويحب أهله ولم يعرف الفساد والمنكر ويكره أهله فقد فسد ومات.
يقول الإمام الشهيد رضي الله عنه وأرضاه تحت عنوان (الجهاد عزنا):

* ومن الجهاد العاطفة القوية التي تفيض حنانًا إلى عز الإسلام ومجده، وتهفو شوقًا إلى سلطانه، وتبكي حزنًا على ما وصل إليه المسلمون من ضعف، وما وقعوا فيه من مهانة، وتشتعل ألمًا على هذا الحال الذي لا يُرضي الله ولا يُرضي رسول الله .
* ومن الجهاد في سبيل الله أن يحملك هذا الهم الدائم على التفكير الجدي في طريق النجاة، وتتلمَّس سبيل الخلاص، وقضاء وقت طويل في البحث عن فكرة تمحص بها سبل العمل، وتتلمس فيها أوجه الحيل؛ لعلك تجد لأمتك منقذًا أو تصادف منقذً، ونية المرء خير من عمله، والله يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
* ومن الجهاد في سبيل الله – أيها الحبيب – أن تنزل عن بعض وقتك وبعض مالك وبعض مطالب نفسك لخير الإسلام وبني الإسلام.

* ومن الجهاد في سبيل الله – أيها الحبيب – أن تكون جنديًّا للإسلام؛ تقف له نفسك ومالك، ولا تبقي على ذلك من شيء؛ فإذا هُدِّد مجد الإسلام وديست كرامة الإسلام ودوَّى نفير النهضة لاستعادة مجد الإسلام كنتَ أول من يجيب للنداء، وأول متقدم للجهاد ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111).
وفي الحديث: «من مات ولم يَغْزُ ولم يحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق»، وبذلك يتحقَّق ما يريده الله من نشر الإسلام حتى يعم الأرض جميعًا.

* ومن الجهاد في سبيل الله أن تعمل على إقامة ميزان العدل وإصلاح شئون الخلق وإنصاف المظلوم والضرب على يد الظالم مهما كان مركزه وسلطاته، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال عن النبي قال: «أفضل الجهاد كلمة الحق عند سلطان أو أمير جائر» (رواه أبو داود والبخاري بمعناه)، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (رواه ابن ماجه بإسناد صحيح).

* ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى – أن لم توفَّق إلى شيء من ذلك كله – أن تحب المجاهدين من كل قلبك، وتنصح لهم بمحض رأيك، وقد كتب الله لك بذلك الأجر، وأخلاك من التبعة، ولا تكن غير ذلك فيُطبعَ على قلبك ويؤاخذك أشد المؤاخذة ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)﴾ (التوبة).

وبعد .. فهذه بعض مراتب الجهاد في الإسلام ودرجاته، فأين الإخوان المسلمون من هذه الدرجات؟ فأما أنهم محزونون لما وصل إليه المسلمون، متألمون لذلك أشدَّ الألم، فعلم الله أن أحدهم يجد من ذلك ما يُذيب لفائف قلبه، وينال من أعماق نفسه، ويحز في قرارة فؤاده، ويمنعه في كثير من الأحايين الأنس بأهله وإخوانه والمتعة بكل ما في الوجود من لذة وجمال، وأما أنهم يفكِّرون في سبيل الخلاص، فعلم الله أن ما من فكرة تحتل أفكارهم، وما من خطة تستهوي عواطفهم، وما من شأن يشغل عقولهم كهذا الشأن الذي ملك عليهم رءوسهم وقلوبهم، واستبد منهم بشعورهم وتفكيرهم.

وأما أنهم يبذلون في هذا السبيل وقتًا ومالًا فحسبك أن تزور ناديًا من أنديتهم لترى عيونًا أذبلها السهر، ووجوهًا أشحبها الجهد، وجسومًا أضناها النصب، وأخذ منها الإعياء، على أنها فتيَّة بإيمانها، قوية بعقيدتها، وشبانًا كم يقضون ليلهم إلى ما بعد انتصافه مُكبِّين على المكاتب، عاكفين على المناضد! وأترابهم في لهوهم وأنسهم ومتعتهم وسمرهم، ورُبَّ عينٍ ساهرةٍ لعينٍ نائمةٍ، وإنما نحتسب ذلك عند الله، ولا نمتنُّ به ﴿بَلْ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الحجرات: من الآية 17).

فإذا سألت عن المال الذي يُنفَق على دعوتهم فما هو إلا مالهم القليل؛ يبذلونه في سخاءٍ ورضا وراحةٍ وطمأنينةٍ، وإنهم ليحمدون الله إذا ترقَّت تضحيتهم بالمال من درجة السخاء بكماليات العيش إلى درجة الاقتصاد من ضرورياته وإنفاق ما يُقتصَد في سبيل الدعوة ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9)، وما أسعدنا أن يقبل الله منا ذلك وهو منه وإليه!
وأما أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فقد بدءوا في ذلك بأنفسهم، ثم بأسرهم وبيوتهم، ثم بإخوانهم وأصدقائهم، وهو يتذرَّعون في ذلك بالصبر والأناة والحكمة والموعظة، وهل ترى جريدتهم هذه إلا مظهرًا من مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل ترى عظاتهم وأقوالهم إلا سبيلًا في هذه السبيل؟

وأما ما بقي من درجات الجهاد فواجب الجماعة؛ فعلى الجماعة أن تجيب، وإن الإخوان المسلمين في ذلك الرعيل الأول لا يدَّخرون وسعًا ولا يحتجزون جهدًا، وهي يعلمون منزلة ذلك من الإسلام، ويعلمون أن النبي قال: «مَن لقي الله بغير أثر من جهادٍ لقي الله وفيه ثلمة» (رواه الترمذي وابن ماجه)، وهم يسألون الله أن يوفِّقهم إلى لقائه وليس بهم ثلمات، وقد قال الله تعالى لنبيه: ﴿لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النساء: من الآية 84)، وإنا لنرجو أن تكون بذلك قد أبلغنا أمتنا، وأن يكون هذا الصوت قد وصل إلى نفوسهم فوجد خصوبة يزداد بها عدد العاملين وتنتظم معها صفوف المجاهدين ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).

واقع المسلمين اليوم مع الجهاد:
واقع المسلمين اليوم يقول إنهم بعدوا عن هذه الفريضة بكل أنواعها وأبعادها وصورها إلا من رحم الله، وهم قليل.
1 – فأهل التصوف لا شأن لهم به، ولا يُدخلونه في حسابهم، ونسوا أن الإسلام يرفض الرهبانية رفضًا باتًّا، وينهى عن الجمود واعتزال الحياة، وترك الجهاد والانقطاع للطاعة والعبادة، وفي الحديث: «رهبانية أمتي في الجهاد»، ومرَّ رجلٌ من أصحاب رسول الله بشِعْبٍ فيه عيينة من ماء عذبة، فأعجبته فقال: لو اعتزلت في هذا الشعب، فذكر ذلك لرسول الله فقال: «لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغْزُ في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة».
2 – والأحزاب الوطنية اتجهت إلى ما يسمَّى بالنضال الوطني أو الكفاح السياسي، وكثيرٌ من السياسيين يعتبرونه خارج وظيفتهم.
3 – والمعاهد العليا لا تشير إليه في برامجها ولا منهاجها من قريب أو بعيد.
4 – وبالتالي فإن الشباب ينشأ بعيدًا عن أغلى ما في دينه وعن لب إسلامه، بل سر عزته وموطن سيادته، ألا وهو التربية على الجهاد بمعناه الشامل الذي أشرنا إليه.

الجهاد في سبيل الله وبواعثه لا علاقة له بحروب الناس اليوم؛ فلا هو لإذلال أحدٍ أو التحكم في مقدرات الأمم أو إكراه إنسان على ترك عقيدته أو زيادة دخل المسلمين أو توسيع رقعة بلادهم أو الطمع في أموال الآخرين. هذه الصور وغيرها ليست من الجهاد في شيء، بل هي أقرب إلى عمل اللصوص وقطَّاع الطرق، ولم يحدث في تاريخ المسلمين أي شيء من هذا.
غير أنه من الواجب أن نشير في ختام هذه السطور إلى أن الفرق كبيرٌ بين استصحاب فكرة الجهاد في سبيل الله بهذا الفهم الشامل الذي أجمع عليه العلماء والفقهاء وبين الغرام بالشغب والإثارة والضوضاء، ويجب أن توضح أن اعتناق الجهاد ليس احترافًا للتمرد ولا امتهانًا لخلق المتاعب والتربص بالآخرين والاحتكاك بهم.

المؤمن أبيٌّ كريمٌ عزيزٌ؛ لا مُعتَدٍ ولا مشاغبٌ، وهو دائمًا أوَّاب للخير والحق، وقَّاف عند حدود الله، ومن هذا المزج بين اعتناق الحق والالتزام بروح الجهاد والسمو عن صغائر الشغب والعدوان يتكوَّن خلق المؤمن الداعية إلى الله بحق، وبهذا وحده تكتمل معالم شخصية المسلم الصحيح.
ولست أعلم في تاريخ دعوتنا المبارك الممتد الميمون أن خلافًا ذُكر حول هذه القواعد التي ذكرتها عن الجهاد وتطبيقاته في هذه العجالة؛ فطبيعة الدعوة تنطق بهذا، وأخلاق الدعاة تؤكده مهما افترى علينا المفترون الذين لا يقدمون دليلًا واحدًا على صدق ما يزعمون.
وأخيرًا. من باب الاعتراف بنعمة الله أنه ما من موقف ولا مناسبة إلا سجل للإخوان ودعوتهم هذا التوافق الطيب. مواقفنا – والحمد لله – كلها غيرة على الحق، وإباء للقيد والظلم، واستنكار بأسلوب عفٍّ نظيفٍ كريمٍ دون تجريحٍ لأحد، ودون أذى لمخلوقٍ أو إضرارٍ، ثم أوبة إلى السير في الطريق المرسوم، ومواصلة للبلاغ والأعذار، والحمد لله نصون تراثنا ونواصل عزمنا على الجهاد في أمانةٍ وثباتٍ والتزامٍ ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).

————————————
1- اللمَّة: هي الخطرة بالقلب، وهي وسوسة الشيطان.
2- يراجع في فصل مراتب الجهاد، كتاب زاد المعاد، ج3، للإمام ابن القيم.
3- زاد المعاد، ج 3.

اترك تعليقا