السابق بالخيرات – د. محمد حامد عليوة

السابق بالخيرات – د. محمد حامد عليوة

من أكبر الفضائل أن يُسارع المرء إلى فعل الخير بإذن ربه، دون أن يغتر بفعله أو يمتن بعمله، وهذه الفضيلة المباركة يدركها الصادقون الذين يعرفون حقيقة هذه الدنيا، أنها دار بذل وعطاء، وتضحية وفداء، كما أنهم – أي الصادقون – يدركون أن أوقات الدعاة والمصلحون غالية، فلا يصح أن يضيعوها أو تمر عليهم دون خير يبذلوه أو واجب يؤدوه، وهم كذلك يدركون أنها حياة قصيرة سرعان ما تمر وتنقضي، والأعمار تفنى وتنتهي، ولذلك كانت المسارعة في الخيرات نابعة من هذا الإدارك الواعي.

ولقد تعرض القرآن الكريم لهذا المعني في عدة مواضع أتت بصيغ متنوعة منها: (وسابقوا) و(سارعوا) و(فاستبقوا) و(انفروا)، فقال سبحانه:
(وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)) – آل عمران
(سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)) – الحديد
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة – 148).
(ٱنفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41)) – التوبة
(وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)) – المطففين
وهكذا في مواضع عدة من القرآن الكريم، يدعونا المولى عز وجل إلى المبادرة والمسارعة والمسابقة إلى الخيرات، لما في ذلك من الأجر الجزيل والثواب الجميل.

وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه في الاستباق والمسارعة أن النبي قال في الصلاة على وقتها: «إنما مثل المهجّر إلى الصلاة كمثل الذي يُهدي البدنة، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي البقرة، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي الكبش، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي الدجاجة، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي البيضة.»، ويقاس على ذلك المسارعة والتنافس في كل صور الطاعات والقربات والخيرات.

وأهل الصدق على طريق الدعوة والإصلاح والهداية يتمتعون بصفة تلازمهم وهي (ترقب الفرصة وحسن استثمار اللحظة)، وهذا يعني أنهما يحسنون توظيف أوقاتهم واستثمار فرص أعمارهم تقربًا إلى مولاهم ومسارعة إلى مغفرة من ربهم.
ولذلك ترى حال الصادقين العاملين على طريق الدعوة أحد رجلين إما رجل يُؤدي دوره ويُسارع في إنجازه، أو آخر يتأهب ويستعد ويتجهز لأداء دوره والمسارعة في فعله.

والسابق بالخيرات: وردت في قول الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِۦ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌۢ بِٱلْخَيْرَٰتِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ (32)) – فاطر.

والسابق بالخيرات: هو الذى يُسارع فيها ويجتهد في أدائها، فيسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه.
والمسارعة في فعل الخير وحمله إلى الناس من الفضائل الكبرى التى عبر عنها القرآن بـ:
(ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

يقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله – في توصيف هذه الأصناف من ورثة الكتاب:
(الظالم لنفسه): العاصي يترك المأمور ويفعل المحظور.
(المقتصد): هو من يؤدي الواجبات ويترك المحرمات.
(السابق بالخيرات): وهو من يؤدي الواجب والمستحب وينتهي عن المحرم والمكروه.

ويذكر السعدي – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: «لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا، وأحسنهم أفكارا، وأرقهم قلوبا، وأزكاهم أنفسا، اصطفاهم الله تعالى، واصطفى لهم دين الإسلام، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب، ولهذا قال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) وهم هذه الأمة. (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالمعاصي، [التي] هي دون الكفر. (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم. (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) أي: سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه.

فكلهم اصطفاه اللّه تعالى، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان، من وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه.
وقوله:
(بِإِذْنِ اللَّهِ) راجع إلى السابق إلى الخيرات، لئلا يغتر بعمله، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه.
»

اترك تعليقا