المربي هو قطب الحركات وروح الدعوات وصانع الرجال والأبطال وصناع الحياة، بل هو سر بقائها ونمائها واشراقها وازدهارها ومبرر وجودها واستمرارها واستقرارها.
كيف الحياة إذا خلت … منا الظواهر والبطاح؟ أين الأعزة والأسنة … عند ذلك والسماح؟
وما الحركات والتنظيمات والدعوات إن خلت من المربين الربانيين المرشدين، إنها والله هياكل وأطلال وأشباح، خط في الماء، ورسم في الهواء: – تصاب بعقم في إنتاج الرجال والمفكرين والقادة والمبدعين. – تنتزع منها البركة التي هي سر الحركة. – يكثر فيها الجدل، ويقل فيها العمل. – يختل سلم أولوياتها، ويكون شعار المرحلة، (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا). – تصاب بمرض التضخم في جانب على حساب الجوهر. – تصاب بالفتور والجمود والترهل. – ينتشر فيها النقد الهدام والتجريح والغيبة والنميمة والحسد والتعالم والتطاول. – الصراع على المناصب والمكاسب وحرق الأخضر واليابس.
يا يحيى خذ الكتاب بقوة: لهذا على القادة والمربين والدعاة أن يستشعروا عظم الأمانة وخطورة المسؤولية التربوية وجديتها وأهميتها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَأوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). فالتربية أمانة غالية لا يحملها حق الحمل من غير احتراس ولا احتراز إلا فارس همام صادق مخلص جاد: (آخذ بعنان فرسه يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِى الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ).
يا ابن الدعوة.. يا صاحب الرسالة.. يا وريث أولي العزم من الرسل.. إنها الأمانة الثقيلة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال وحملتها أنت، فعلمت بذلك أنك لا بدَّ أن تكون أقوى من السماوات والأرض والجبال! فهذه الأمانة لن يحملها ضعيف متخاذل، ولا كسول متراخ، ولن يصلح لها إلا الجد والقوة، وهذه هي لغة القرآن. ألم تسمع: (يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوَلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا) مريم: 12
وحتى يكون المربي كذلك، مؤثرًا وقدوة ورمزًا، لا بدَّ له من مرتكزات ثلاثة متكاملة متناسقة:
أولا – المربي فكرًا وعلمًا: وذلك بتنميته وتجديده وإعادة تشكيله من خلال المطالعات المكثفة والدورات الشرعية والفكرية والعلمية المركزة. (التابع يستطيع الإقلال، والراضي بمنازل الهامش يمكنه سماع الأشرطة مكتفيا بها، أو الركض وراء خطباء العاطفيات ليشبع نفسه، ولكنا نتحدث عن قوم في المركز والبؤرة والقلب والصميم، يريدون قيادات الناس ومعاكسة التيار ومقاومة الغزو ومعاندة العالم، ولهم هدف إصلاح وتغيير وهدم طواغيت استعبدت العلم وسخرته، وقوم هذه هوياتهم وخوارطهم وغاياتهم يفترض أنهم نذروا أنفسهم للتعب وجمع العلوم والمعارف والفنون.)
من واقع محاضننا التربوية: – مربي يأتي إلى مجلس الذكر أو الأسرة: دون تحضير مسبق. حاملا كتابا يقرأ منه مباشرة – ولعله يطالع موضوعه أول مرة – يتأتئ ويتلكأ.. فماذا تنتظر من مريديه إلا فن التثاؤب..! ويتكرر هذا الأمر بنمطية قاتلة لروح اللقاء..! – في المقابل مربي كالنحلة، ينتقل من زهرة إلى زهرة ومن مرجع إلى آخر، (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ). خبرني بربك كيف يتفاعل الإخوة معه؟ .. محبة وشوقا وحوارا ومسارعة وحضورا ومزاحمة بالركب. – وتصور معي مربي يشرف على أسرة فيها أعلى التخصصات الشرعية والمعرفية، ثم لا يطور نفسه ولا يعتمد مراجع مركزة في القمة بحجة عدم الخروج على النص. – وبالعكس هناك من لا يخاطب الحاضرين على قدر عقولهم، وربما هم لم يتقنوا بعد أبجديات الدعوة، فيحلق بهم في مراقي عالية لا تراعي واقعهم، فيُحدث لهم تشويشاً وفتنة و ربما عزوفاً وانقطاعاً.
ثانيا – المربي ربانية وروحًا وقلبًا: فالمربي الذي ليس له حظ من القيام والتلاوة والذكر الكثير والدورات الروحية والورد اليومي كيف له أن يفيض على غيره؟ حالًا ونورًا وربانية وتأثيرًا وبركة وقبولًا.
يقول الإمام حسن البنا: «فاقد الشيء لا يعطيه، والقلب المنقطع الصلة بالله كيف يسير بالخلق إليه، والتاجر الذي لا يملك رأس المال من أين يربح، والمعلم الذي لا يعرف منهاجه كيف يدرسه لسواه، والعاجز عن قيادة نفسه كيف يقود غيره، ما أشد حاجتكم إلى هذا الصنف من الجهاد؟ إن استطعت أن يكون هذا هو كل ما تحمل عليه من عاهدوك على العمل فهو نجاح ما بعده نجاح، ولقد كان أصحاب محمد رهبانًا بالليل فرسانًا بالنهار أفترى إحداهما انفكت عن الأخرى؟ يا أخي: اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار».(1)
ويستكمل الإمام البنا كلامة فى نفس المقال فيذكر: «فالطريقة واضحة، كونوا عبادًا قبل أن تكونوا قادة، فستصل بكم العبادة إلى أفضل قيادة، واحذروا أن تعكسوا القضية كما يفعل الناس، يطلبون القيادة قبل أن تسلم لهم ناحية العبادة فيخضعون أو يصلون فيضطربون، وأشربوا نفوسكم الحديث القدسي: (مَن آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه) أخرجه البخاري
ليست التربية فصاحة وبلاغة وشقشقة كلام، بل كن صحيحًا في السر تكن فصيحًا في العلانية. لهذا جاء قوله تعالى: للداعية والمربي الأول: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَإذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)) (المزمل)
فالقرآن الكريم ذكر مداخل ثلاثة لوصول القلب لمرحلة العبودية: ومن أجَّل الوسائل لذلك؛ هي التعبدات الخاصة من قيام وتدبر للقرآن وذكر كثير، وهذه المداخل الثلاثة، من لم يلجها من الملتزمين فهو على خطر عظيم، ولن تتم له أمور العبودية الأخرى على وجه مستقيم.
قال الدكتور عبد الكريم بكار: «وفي غمرة العمل قد تغلب على الداعية الحركة وحب الاتصال بالناس، بل قد يغرق في متابعتهم وحل مشكلاتهم. وإذا بماء الإيمان لديه ينضب، أو يتعكر دون أن يدري، وحين يحدث ذلك فإن عاقبته ستكون: فتوراً في العمل وفتوراً في العطاء. كما ستكون ضعفاً في تأثير الداعية في غيره وبهوتاً لجاذبيته ولمعانه في عيون مدعويه!»
جلسة ابن تيمية، أو زاد الداعية: كان شيخ الإسلام ابن تيمية يجلس في مصلاه بعد الفجر يقرأ القرآن ويذكر الله حتى ترتفع الشمس. يحكى عنه تلميذه ابن القيم فيقول في كتابه (الوابل الصيب من الكلم الطيب): «وحَضَرتُه مرَّةً، صلَّى الفَجرَ ثم جلَسَ يذكُرُ اللهَ تعالى إلى قريبٍ مِنَ انتِصافِ النهارِ، ثم التَفتَ إليَّ، وقال: هذه غَدْوتي، ولو لم أتغَدَّ الغَداءَ، سقَطَتْ قُوَّتي. أو كلامًا قريبًا مِن هذا» (الوابل الصيب – صـ 62). (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ).
فالمربي أستاذ الذوق: فالدعوة إلى الله عنده حب ورفق، والذوق سلوك الروح. يبدو أن أكثر دعاة الإسلام قد تخلفوا عن أداء مهمة هي من أخص مهامهم، وأن تخلفهم عن أداء هذه المهمة هو السبب الأول وراء كل مشكلة تعترض ركب الدعوة وكل عثر يقع فيها. هذه المهمة هي إشاعة الحب بين القلوب، إنه كما يختص كل أستاذ بمادة يحسنها ولا يضيره ألا يحسن سواها، فكذلك الداعي إلى الله يختص بمادة الحب، حب الله وتوثيق عرى المحبة بين القلوب، ولا يضيره كثيرًا إن هو نجح في مادته أن يقصر فيما سواها، لأنه حينئذ يكون قد أرسى الأساس الراسخ في أعماق النفوس، وهيأ المنبت الصالح لكل الفضائل، وأقام الحصن المنيع دون أكثر الفتن.
من الذوقيات الرائعة الساحرة: الإمام حسن البنا يهدي والد الشاعر عمر بهاء الأميري باقة من الأزهار. يعدو خلف القطار ليلتحق بهما ويهديهما باقة الأزهار.. !! هذا الفعل أبلغ من كل موعظة حول الحب والذوق. ولا عجب من هذا الذوق وهذا السلوك، فمن تحدثوا عنه قالوا كنا نسمع منه كثيراً: «كونوا مع الناس كالشجر، يرمونه بالحجر، فيبادلهم بأطيب الثمر».
وكان رغم خلافه فى الفكر والنهج والتوجه مع الأديب الدكتور طه حسين، إلا أنه كان يتعامل معه بمنتهى الذوق، وينزله منزلة كريمة تليق به، رغم خلافه معه، الأمر الذى أثر كثيراً فى الأديب طه حسين، وهو ما عبر عنه يوماً حين قال: «يا ليت كل خصومي مثل حسن البنا».
لعل مما يزعجنا الآن أن نلحظ أن بعض المتصدرين للدعوة الاسلامية عصبيون لم يهضموا بعد أدب الاختلاف، ويضيقون صدرا بالرأي المخالف، مسبغين عليه التقريع بل السباب بل التكفير أحيانا في غير كفر والعياذ بالله.
واضرب مثلا مقابلا، حين جاء إلى الأستاذ البنا أحد زملائه خريجي دار العلوم هو الأستاذ (س. سعد) وهو من أورع الناس وأتقاهم، ولكنه غضب كل الغضب لأن الإخوان أنشأت فرقة للجوالة والكشافة (تلبس البنطلون القصير). قال الأستاذ (س. سعد): «يا حسن أفندي». فأجاب الإمام البنا: «نعم يا سيدي». قال: «إني أكرهك». فابتسم حسن البنا وقال في هدوء وبشاشة: «وإني والله لأحبك». فقال الرجل: «ولكني أكرهك في الله». وبالبشاشة نفسها والهدوء أجاب حسن البنا مخلصا «هذا يزيدني فيك حبا». ولم يكن ذلك مصانعة، وإنما كان الرجل يقتات على المحبة. والحمد لله رب العالمين
————— (1) المصدر: مقال للإمام حسن البنا، بعنوان: سبيل الظفر. عبادة ثم قيادة (هكذا يجب أن يكون الإخوان المسلمون)، نشر فى جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (3)، السنة الخامسة، 25 ربيع الأول 1356 هـ – 4 يونيو 1937م. (2) نفس المقال السابق، (سبيل الظفر. عبادة ثم قيادة)
زهرة عثمان عمر
احسن مربي
غير معروف
ربنا يحميكم