يُروى عن (الحاج أحمد البس -رحمه الله) (*)، أنه قال لبعض شباب الإخوان المسلمين في أحد توجيهاته: «إنه في يومٍ من الأيام سيصل أحدنا لسدة الحكم، وعندها ستكثر تضحياتنا، وستزيد الآلام وستسيل دماؤنا، ولكم في سيرة رسول الله ﷺ العبرة».
في المدينة وبعد الهجرة، وعند بدء تكوين الدولة الإسلامية ضحَّى المسلمون أكثر مما ضحوا في مكة، واستشهد منهم أضعاف أضعاف ما استشهد منهم في مكة. حين إذ يجب أن تدركوا أنكم على الحق، وحق عليكم الصبر والثبات. إذن الابتلاء سنة من سنن الدعوات قبل التمكين.
ولا يُمكّن المرء حتى يُبتلى، ولا يعرف النّاس معادن الرّجال حتّى يتمّ تمريرهم على مصافي التّمحيص السّت الوارد ذكرها في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَأمِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)) (آل عمران)
– غربال إغواء الشّهوات من النّساء. – وغربال ضغط العواطف من البنين. – وغربال المسئولية الخالبة للألباب والسّالبة للمروءة والرّجولة والشّهامة. – وغربال الاسترخاء في ظلال السّلطة على ظهور الخيول المسوّمة واستحلاء شهوة الرّكوب. – وغربال الانجذاب للأرض والإخلاد للكراسي. – وغربال الوقوع في حمأة الطّين من امتدادات الأنعام والحرث.
لن يُمكَّن النّاس ولا المؤسّسات حتّى يتمّ تمريرهم على هذه الغرابيل السّتة؛ لأنّ المولى تبارك وتعالى لا يترك النّاس لادعائهم وقولهم: «إنّنا ملتزمون»؛ بل لا بد من ابتلاء وتمحيص وغربلة.
وفي آيةٍ واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان، وهي خلاصة للرغائب الأرضية، إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن تُوفِّره لأصحابها من لذائذ أخرى.
وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنات تجري من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة، وفوقها رضوان من الله؛ وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله، على النحو الذي تعرضه: – (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ(17)) (آل عمران). (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
– الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه، ويتصلوا به – الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا – الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس – الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب
أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم، ولن ينسى جهادهم. إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضيهم، وسينظر إلى جهادهم فيه فيهديهم، وسينظر إلى محاولتهم الوصول إليه فيأخذ بأيديهم، وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء. ِ(إنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) من (جهاد – تحمل أعباء الطريق – صبر).
فأول التغيير ميدان النفس، «وحسم معارك الوجدان قبل حسم معارك الميدان»، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغيرُ مَا بِقومٍ حتَّى يُغيِّروا مَا بِأَنفُسِهم) (الرعد: 15). فمن الغفلة المهلكة البحث عن تغيير الواقع ونحن عاجزون عن تغيير ما بأنفسنا، فذلك مخالف لسنن الله في التغيير، فإن أصعب معركة وأشدها تعقيدًا هي معركة النفس البشرية (نفسك أنت) وأخطر أنواع الغطس هو (الغطس) داخل أغوار النفس البشرية (نفسك أنت)، وأكثر مخلوقات الله تملصًا وتهربًا من المسئولية وأشد حبًّا للراحة والاسترخاء هي النفس البشرية.
ورحم الله الإمام حسن البنا، حين قال: «يا شباب الإخوان المسلمين : ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم فى جهادها كنتم عما سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولاً، واذكروا أن الدنيا جميعاً تترقب جيلاً من الشباب الممتاز بالطهر الكامل والخلق الفاضل، فكونوا أنتم هذا الشباب ولا تيأسوا.»(1)
وكلما تضخَّم فيها (الأنا)؛ تعمَّقت فيها مشاعر السلبية والانسحاب من مواقع التدافع، والاكتفاء بالتفرج على المعركة من بعيد، وتوجيه سهام النقد للعاملين، وكأن المتفرج غير معني بها وبنتائجها، فإذا حسمت لصالح فريقه جاء مهنئًا ومباركًا، أما إذا انهزم (إخوته)«قَلَبَ له ظهرَ المِجَنّ» (2)
فليس من الإنصاف مع العاملين المجتهدين لتغيير الواقع وفق المتاح والأولويات. أن نجمع عليهم (بخس) أشيائهم، و(شماتة) أعدائهم، والأولى أن نعينهم إعانتين:
–بالدعاء الخالص: أن نعينهم بكثرة الدعاء لهم بظهر الغيب على جهدهم واجتهادهم، إذ هم مطالبون بالأخذ بالأسباب وليسوا مطالبين بضمان النتائج. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)). الأنفال –وبالتماس العذر: فالجالس على الأرض لا يسقط، والذي لا يعمل لا يخطئ، أما العاملون في الميدان فمعرضون للخطأ كونهم غير معصومين، والأصل فيهم أنهم محل ثقتنا، ولا أحد في هذا الكون يعمل ثم يرغب في الفشل، فلا يؤتين الإسلام من قبلك (بتقصير أو تقييم شخصي).
إذا استشعر كل فرد منا أنه ساهم بقسط ما -مهما كان صغيرًا- في تقصيرٍ لما ترك ثغرة بغير حراسة أو ظن أن (دوره) غير ذي قيمة في حراسة العير، وغير ذي أهمية في تكثير سواد النفير متعللًا بقول السابقين: (هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ)، ويغفل عن حقيقة قرآنية ساطعة في بيانها قاطعة في مواساة جراح المستجيبين لنداء الواجب، فهم الصفوة المرجحة لكفة النصر المنشود مع أن عددهم قليل من المشمولين بقوله عز وجل: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)) (آل عمران). هؤلاء هم الذين يملكون القابلية لتحويل الهزائم إلى انتصارات من بعد ما أصابهم القرح؟
——————————– (*) أحمد البس أو (الحاج أحمد البس) (1915 – 1992) هو أحد الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، ولد في قرية القضابة مركز بسيون بمحافظة الغربية بمصر. وكان عضوا بمجلس الشعب المصري في الدورة البرلمانية (1987-1990). (1) المصدر: من توجيهات الإمام حسن البنا، نُشرت في جريدة (الإخوان المسلمون) تحت عنوان (توجيهات)، بتاريخ (26 ذو القعدة 1361 هـ، الموافق 5 ديسمبر 1942م). (2) «قَلَبَ له ظهرَ المِجَنّ» أي عاداه من بعد مودّة. وهو مثل يُضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ثم حال عن العهد.