(بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) – بشائر خير في ظلال المحنة بقلم: د. محمد حامد عليوة
إن من نعم الله على عباده نعمة الإيمان به، والتسليم الكامل له، واليقين الجازم بوعده الصادق، وقدره النافذ، وقدرته الناجزة. وحكمته البالغة. فما أجمل من أن ترتبط قلوب المؤمنين بخالقها، وتعتصم بهدي رسولها، عندئذ تتحقق لها سعادة الدارين بهذا القرب وهذه الصلة الربانية.
والمتأمل فيما يجرى لأهل الحق من الدعاة والمصلحين، من كيد وتنكيل، وتشويه وتضليل، مع ثباتهم وصبرهم واستشعارهم معية ربهم، يوقن أن فرج الله قريب، وأن ما يجرى هو خير لهم، وليستبشروا بنصر الله لأولياءه ولو بعد حين، هذه نتائج الصبر واليقين واستشعار المعية، وإن تجبر الباطل، وقل الناصر.
فهذا نبي الله موسى حين قال له أصحابه: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، قال لهم وهو يستشعر معية ربه: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، والنتيجة (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) الشعراء 65-66.
وهذا الحبيب محمد ﷺ يؤكد هذه المعية، مع رفيق الغار (سيدنا إبو بكر الصديق – رضي الله عنه) حين قال له صاحبه يا رسول الله: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا» فَقَالَ له رسول الله ﷺ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا». وقد أكد القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وكانت نتيجة الثبات والصبر واليقين في معية الله، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) التوبة 40.
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ما تتعرضون له أيها الأحبة من ظلم وقهر – في سبيل الله – هو خير لكم ولدعوتكم، وإليكم بعض جوانب الخيرية في هذا الموقف إن أنتم صبرتم وثبتم وارتبطت قلوبكم بمولاكم:
1- أن الله وعدكم بالأجر الوافي إن أنتم لزمتم طريق الحق، وثبتم أمام قوى البغي، وصبرتم على الأذي في سبيل الله، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). الزمر:10 ومن خيرية المحنة أن يجعلها الله محنة اصطفاء واختيار لعدد منكم اتخذهم شهداء في سبيل نصرة الحق، وهذا على المستوى الفردي فوز عظيم لمن نالوا الشهادة في الحق، وعلى المستوى الجماعي زاد ورصيد لهذه الدعوة على طريق الإصلاح والتغيير، فكل دعوة عظيمة قدمت الدماء والأرواح في سبيل المبدأ كتب لها الخلود والصعود، فالتضحيات معراج الدعوات.
2- أن المحن تُصقل الدعوة في نفوس الدعاة، وتقوي عودها، وفي ذلك خير بإذن الله تعالى، وسيتربي خلال هذه المحنة جيل من الدعاة سيكون لهم الدور البارز والفعل الناجز في نُصرة الحق وإقامة العدل. يقول الإمام البنا: «المحن هي التي تُصقل الدعوة في نفوس الإخوان، وتدفع رجالها بالنهوض بأعبائها».
3- أن المحن من علامات الطريق، ووجودها دليل على صحة المسير إلى الله تعالى، فقد سار على هذا الطريق بفتنه ومحنه خير خلق الله من الأنبياء والمصلحين، ولله در الإمام بن القيم حينما قال: «أيْنَ أَنْتَ وَالطّريقُ؟ طَريقٌ تَعِبَ فِيهِ آدمُ، وناحَ لأَجْلِهِ نُوح، وَرُميَ فِي النَّار الْخَلِيلُ، وأضْجِعَ للذّبْحِ إسْماعيلُ، وَبِيعَ يُوسُف بثَمَنٍ بَخْس ولَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنين، وَنُشِرَ بالْمِنْشَار زكريا، وذُبِحَ السّيدُ الْحصورُ يَحْيَ، وَقَاسَى الضُّرّ أيوبُ، وزادَ عَلي المِقْدارِ بُكَاءُ داود، وسَارَ معَ الْوَحْشِ عِيسى، وعَالجَ الْفَقْرَ وأنواعَ الأذَى محمّد ﷺ» الفوائد:54.
وبالتالى ونحن في هذه المحنة المعاصرة نشعر بالطمئنينة والعز والفخار حين نسير على درب هؤلاء الأخيار، وهو خير لنا لا شك في ذلك.
وما يزيدنا إطمئنانًا وبشرًا أن ما حدث كان ونحن نسير إلى الله بعزم وصدق؛ وبالتالي لا نستقل هذه التضحية وهذا الصبر في جنب الله تعالى، ويكفينا أننا فُتنا ونحن على الطريق، ولا زلنا عليه بحمد الله، وهذا من فضله علينا، ولولا فضل الله وتثبيته لركنَّا إلى الباطل أو حِدنا عن الطريق. (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا). الإسراء:74
4- أنها محنة كاشفة، أبانت لنا حجم المؤامرة على الدعوة، وكشفت لنا المتآمرين في الداخل والخارج من أفراد وكيانات ودول وأنظمة، وما كان لنا أن نعرفها بهذا الوضوح لولا هذه المحنة القاسية. وهي مشيئة الله النافذه في عباده ودعوته، (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ). الأنعام:112
5- حالة الثبات والصمود التي يتمثلها قادة الدعوة وشبابها ونسائها وفتياتها لهي خير دليل على رعاية الله لهذه الدعوة وأبنائها، فالثبات ثمرة من ثمار الإيمان، وهو من الله سبحانه (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَ). إبراهيم:26. فرغم قسوة المحنة، وشدة البطش والتنكيل، لم يتنازل أهل الحق عن ثوابتهم، ولم ينحرفوا عن طريق دعوتهم، ولم يعطوا الدنيَّة في دينهم.
6- أن المحنة كشفت لنا أن تربية المجتمعات، وتغيير الأعراف، وبناء القيم؛ أمور تحتاج إلى جهود مضنية وتستلزم إجراءات وآليات متجددة تلائم الواقع وترتقي به، وبالتالي لا نستعجل قطف الثمار، ولا ننخدع بالفورات الوقتية أو المظاهر الشكلية.
7- حتى ترتبط قلوبنا بالله وحده، وتطمئن قلوبنا أن ما حدث ليس بعيداً عن ملك الله وليس خارجاً عن مشيئته سيحانه، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾. وهنا تطمئن قلوبنا لفرج الله القريب.
ولنتأمل التتابع في قوله تعالى في آيات سورة الأنعَام: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾. ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)﴾. وبالتدبر والتأمل في ذلك؛ لا نقنط أو نيأس لما أصابنا على طريق الحق رغم إجتهادنا، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)، ولكن ما علينا إلا أن نستمر ولا نتوقف، ونأخذ من المواقف والأحداث العبر، فوعد ربنا واقع، وأمره في تأييد عباده نافذ، وحُكمه في حفظ دعوته صادق، (لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، ودعوته ظاهرة غالبة لن يضرها من خذلها بإذن الله.
8- حتى نتربى على أن كل محنة في جنب الله تهون. فمن سُنن الله في الكون وفي أحوال العباد ووقائع التاريخ؛ أن كل شيء يبدأ صغيرًا ثم يكبر، إلا المحن والشدائد تبدأ كبيرة ثم تصغر. حيث تشتد المحن في أولها ومع الصبر والثبات يخف وقعها في النفس. وإن كانت المِحنة في جنب الله ونُصرة للحق؛ فإنها باليقين والاحتساب تتحول إلى طاقة دافعة، وعبادة نافعة. فكل شدَّة في جنب الله تهون.
9- كما أوضحت لنا هذه المحنة حالة الضعف التي تعاني منها مؤسسة الدعوة في بعض الميادين العصرية المؤثرة، والتى استخدمها الخصوم والأعداء في حرب الدعوة وتشويه صورتها وتاريخها ومنهجها، ومن ذلك الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، والبحوث الاجتماعية، ومنهجيات بناء وقياس الرأي العام، وقواعد المعلومات وتحليل البيانات، ومشاريع بناء رجال الدولة، . إلخ، وغيرها من القضايا التي تحتاج من أبناء الدعوة أن يستدركوا عليها مستقبلًا، ويولونها اهتمامًا كبيرًا في الفترات القادمة إن شاء الله تعالى.
10- وختاماً.. إنها التضحيات والمحن باب الأجر الجزيل والثواب الجميل، وكُلنا أمل في الله تعالى، فهو سبحانه لا يُخيّب رجاء الراجين، ولا يُضيع تضحيات الباذلين، ولا يرد مظلمة المظلومين، ولن يُهمل كيد الكائدين، ولن يُفلت من عقابه الباغين.
فهل يُعقل بعد هذه التضحيات، بالأموال والأنفس والثمرات، والأوقات الغاليات، والجهود المضنيات، ألا يكللها الله بأجر جزيل وثواب جميل، وعز وتأييد ونصر وتمكين؟ كلا.. .
فربُنا لا يُضيع أجر العاملين المخلصين، وهذه الدعوة كثرت في سبيلها التضحيات. ولابد من اليقين الجازم بأن الله مُؤيدها رغم كثرة العقبات، وناصرها رغم تعاقب الفتن والأزمات. ورحم الله الإمام البنا حين قال: «ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل».