حسن البنا: نسر يخفق بجناحيه في سماء الناس – بقلم: الأستاذ إبراهيم منير
لأنها لم تكن تجمعاً بشرياً اجتمع من أجل قضية جزئية يسعى لمعالجة هذه القضية، رغم سمو أي تجمع من هذا النوع يعمل على إقرار الحق وإبطال الباطل، ولأنها لم تكن نفرة في سبيل راية عمِّية (*) جاهلية محكوم عليها – بسنة الله – بالفناء، ولأنها لم تكن عصبية لجنس ضد جنس أو لقوم ضد قوم أو لزعيم دون آخرين.
لأنها لم تكن كذلك ولا كانت لغير الهدف الأسمى الذي يتجمع في سبيله أي بشر مخلصون. كانت جماعة الإخوان المسلمين. وكان مرشدها الأول حسن بن عبد الرحمن البنا.
حاول وحاولت معه جماعته أن تكون مخلصة لفكرها صادقة في بيعتها لخالق الكون وبارئه سبحانه وتعالى مُنَّزل الكتاب وحافظه والذي بيده ملكوت كل شيء، والموت والحياة، ومع اليقين الراسخ بأسس العبودية لله وحده، فقد جاءت أسس الفكر التي انطلقت بإذن الله من يقين الإمام وما استوعبه من قرآن ربنا وسنة نبينا محمد ﷺ مجتهداً فيه، دون ابتداع ودون مصادمة لاجتهاد سبقت به الأمة. فلا استعلاء على تاريخ الأمة ومجتهديها. ولا مناجزة لحزب أو تجمع اختار سبلا أخرى لرعاية الخلق وإصلاحهم. سعيا لتحقيق ما يريد مستترا أو متخفيا أو خادعا للناس بما يفسد على الفكرة أصالتها أو يدخل عليها ما يخدش صفاء نواياها حتى ولو كانت الدنيا كلها. وبهذا.
وباجتهاد الإمام وضربه للمثل أمام من بايعه والخَلْق أجمعين. وباجتهاد الأفراد واندفاعهم دون التخلي عن الضوابط الحاكمة. بقيت جماعة الإخوان المسلمين وبعد مرور أكثر من 65 على استشهاد الإمام هي هي جماعة الإخوان المسلمين. وهو هو، الإمام الداعية المربي المجتهد حسن البنا.
هل يصف البشر الجبل الأشم بأبلغ ما يقال عنه أنه جبل أشم. أو يجد بشر وصفاً أقوى وأدق للنهر الدافق بغير أنه نهر دافق. هكذا نرى ويرى معنا الكثيرون من الخلق الإمام الشهيد بأنه حسن البنا ولا غير، والآن وبعد هذه العقود الطويلة التي حاول الكثيرون بعد حادثة مقتله الغادرة ودفنه تحت التراب أن يعملوا فيه معاولهم للنيل منه فلم يحظوا بغير ما انحط عليهم من غبار التراب الذي وارى جسده الطاهر – بإذن الله – تماما كما يحدث مع الجبل الأشم، أو من حاول أن يكدر ماء النهر ويلقي فيه ما يكدر هذا الماء العذب المتجدد الذي يروي بإذن الله نماء النفوس وطُهر القلوب ولا ينال منه الشانئون أو المحبون أو الحيارى والقاتلون إلا رداذ الطهر والصفاء كما طالب الإمام به إخوانه «كونوا كالشجرة المثمرة. يرميها الناس بالحجر وترميهم بالثمر».
وهكذا ستظل سيرة مرشدنا الأول – يرحمه الله – متجددة مثمرة تواصل دورها لما خلقها الله لها تماما مثل ما خلق الله سبحانه لأجله الجبال الرواسي والأنهار العذبة دون أن يلحقها سوء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولعل قدر الله الذي جرى عليه بميتة شريفة فور أن بلغ رشده – 42 عاما – وبحال من الدنيا لا يُطغى ولا يفتح بابا للفتنة أو التأويل أو الطعن أو الشبهات في حياته وبعد استشهاده، فلا سلطة يختصم معه فيها الناس ولا مال يدور حوله القيل والقال. وتراث من الفكر لا يبتدع فيه ولا يرفع به نفسه وإخوانه فوق مستوى عباد الله. فتزل قدم أحد منهم حين يزل لسانه فينطق بما قد يوسوس به الشيطان إلى نفسه بأنه خير وأفضل عند الله من الآخرين. ليبقى حسن البنا – ولا نزكي على الله أحدا – كمثل: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ).
سنظل أمام سيرة مرشد جماعة الإخوان المسلمين الأول الإمام الشهيد حسن البنا، وسنظل وغيرنا كلما طالعنا هذه السيرة طالعتنا معالم جديدة تختفي أحيانا وسط صخب رنين الكتابة في أسماع وقلوب المرهفين الذين يطالعون السيرة بأبصارهم وبصائرهم فلا يختلط الحق في أذانهم تحت ضجيج الأحداث، ولا تفقد أبصارهم وبصائرهم الرؤى عندما تغشى الدنيا ظلاماتها، وتظل نقاط الضوء الصغيرة التي تخترق هذا السواد بارزة شاخصة تنبئ عن ما وراءها وما حاول الكثيرون إخفاؤه بأستار ظنوا أنها يمكن أن تطمس ملامح الضياء في نفس داعية مؤمن أعدت له دولته ومن خلفها دول، موتة أجهدوا أنفسهم في حبك خيوطها في ليلة أطفأوا فيها أنوار العاصمة المصرية، آملين أن تخمد مع آخر نقطة دم تخرج من جسده المسجى، شعلة الضياء في النفس الربانية، فلا يراها بعد وضعه تحت التراب أحد، ولكن يظهر ضياؤها، عندما يصح البصر وتصفو البصيرة، وتتوهج السيرة وكأنها تبدأ من جديد مع كل معول ينبش وكل كلمة غير عادلة تصاغ.
في كلمات اختارها الإمام الشهيد سطرها في «مذكرات الدعوة والداعية» وانتقاها من سيرته ورأى قبل أن يأتيه اليقين أن يضعها لإخوانه. كلمة وجّهها لشباب الجامعة، قال فيها:
«ويأخذ الناس عليكم في دعوتكم أنكم لا تحققون مناهجكم في أنفسكم تحقيقا تاما. وأنا مع الناس في أن هذا صحيح إلى حد كبير، فنحن لا زلنا عاجزين عن تحقيق منهاجنا تاما كاملا في أنفسنا. ولا أحب أن نعتذر بأن معظم هذا العجز يرجع إلى الظروف أكثر مما يرجع إلى الأشخاص فإن المقام مقام طموح إلى الكمال لا دفاع عن النقص.
ولكني أحب أن أنبه إلى الفارق بين الإخوان وبين غيرهم في هذا، فإن الإخوان يشعرون من أنفسهم بهذا ويعترفون. على حين يأخذ غيرهم في الدعوى العريضة، ويتسترون بخلابة الألفاظ. والإخوان مع هذا الاعتراف دائبون على طلب الكمال حتى يأخذوا منه بالنصيب الذي قدره الله لهم».
قدر الموت الذي يصاحب كل مخلوق في هذا الكون. الإنس والجان والملائكة والشجر والحجر والجبال والدواب والأفلاك. هذا القدر عاشه حسن بن عبد الرحمن البنا منذ وعى وجوده في هذه الدنيا بمداومة زيارته للمقابر، وظل وعيه يزداد قربا منه كلما زادت أيام عمره وسنينه، وأدركه يقين بقربه ودنوه عندما انطلق بدعوته وأدرك معها أن دعوة الحق التي يجهر بها لن يَرْضى عنها أكثر الناس، وأن استمساكه بهذا الحق الذي آمن به دون انخداع بغيره أو المساومة عليه أو التفريط فيه. ثمنه اليقين الذي لا شك فيه. الموت.
توجيه سيظل يقرع آذان الدعاة والناس جاء على لسان مرشد الجماعة الأول وسيظل دافقا هادراً، لا هادماً ولا مهادناً، لا مزكياً بل مذكراً نفسه وإخوانه بخطيئة إبليس الأولى (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) التي أوردته مورد الجحيم، دافعاً إلى الكمال، ورافعاً لهمم الدعاة إلى حيث يُحلق ذلك النسر الخافق بجناحيه في سماء الناس.
يرحم الله مرشدنا وإمامنا حسن بن عبد الرحمن البنا الذي أتى إلى الدنيا كما يأتي كل الناس وخرج منها لا كما يخرج معظمهم، فقد وفقه الله سبحانه وتعالى في عمره القصير، أن يهب هذا العمر لدعوته وأن يختمه بدماء تسيل وعلى أيدي ظلمة بغير شرع من الله ولا قانون لتكون حكمة الله سبحانه وتعالى التي تغيب عن الجميع بأن تكون هذه الموتة هي الشهادة على أنه كان على الحق وأن تظل حرارة دمائه التي سالت، وقوداً دافعاً لجماعته التي بثت روحا جديدة في الأمة، ويظل هو نفسه نسرًا يخفق بجناحيه في سماء الناس.
———– * نائب المرشد العام، وقد كتبها فى ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا (فبراير 2015) (*) عَمِيَّةٍ: ضَلاَلٍ وَغَوَايَةٍ