روح الجَمَاعَة (3)– بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم ثريا (من علماء الأزهر)
تابع: وقفة مع مكنون هذا الكنز (تناولنا من أولاً إلى سادساً في الجزئين الأول والثاني من المقال).
سابعًا: المحافظة على النظام من أسرار النجاح كل شيء في الكون من حولك يوحي بالنظام والنسق الجميل، والحركة الهادفة المنتظمة، ولكل جماعة نسقها ونظامها، من انطوى في فلكها يجب ألا يشذ بحركته عن المجموع، وإلا كان نشازًا، واصطدم بالنواميس الغلابة، والتي لا تحابي ولا تجامل.
ولكل فرد في الجماعة فلكه الذي يسبح فيه توظف فيه قدراته، وتراعى فيه إمكاناته وقدراته، دون تصادم، أو تعطيل، وكل ميسر لما خلق له، ولكل مكانه الذي يتحقق فيه عطاؤه، ويكثر فيه بره وخيره، فليلزم كل منا ثغره، ولا يستشرفنَّ أحد إلى ثغر غيره، لأن ذلك منزلق خطير هلك فيه خلق كثير. وطوبى لمن يؤدي ما يناط به، إن كان في الساقة فهو في الساقة، وإن كان في الحراسة فهو في الحراسة، وهذا منهج النبوة، وليس بدعًا من الجماعة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ ﷺقَالَ «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ»(5).
ثامناُ: الجماعة والفرد جنة وشجرة طيبة. ما أجمل هذه العبارة! «وليست الحديقة الجميلة أرقامًا من شجر، وإنما هي (نسق) من شجر (وطاقة) من زهر وثمر!».
هكذا يجب أن نكون نسقًا متسقًا من نخيل وأعناب وزروع وثمار تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وبجوار النخيل تتولد الفسائل وتنمو، وحتى تستقل بذاتها تنزع من أمها وتغرس شجرة مستقلة، وكذلك الأعناب تؤخذ منه العُقل وتغرس بعد حضانة في مشتل والجميع يتحول إلى شجر مبارك طيب.
أيها الأخ الحبيب: كن أنت النخلة الطيبة، ولتنم في أحضانك الفسائل المباركة من أبنائك أو أبناء إخوانك أو جيرانك أو أبناء جيرانك على أن تستقل بذاتها بعد حين من الزمن، ليتولد منها ومنك فسائل أخرى مباركة تشد من أزرها وتزيد من خيرها حتى ينعم جميع أبناء المجتمع بثمرها الطيب المبارك. وما أجمل مثل أمة الرسول ﷺفي سورة محمد: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (محمد: 29).
تاسعاً: الفرد في الجماعة ذوبان وتعظيم
الفردية في الجماعة تذوب وتنمحي، والجماعة تعلي من شأن الفرد وتمنحه من قوتها وقدراتها ما يجعله خلقًا آخر، حيث يتحرك بقوة المجموع، وينطق بصوت المجموع، ويواجه الدنيا وعمقه وقوته وقدرته مستمدة من المجموع، ومن ثم يمضي غير هياب ولا وجل، فمن حوله يؤازره، ومن بجانبه يسانده ويدعمه، وهو محاط بسياج من إخوانه عنه يدفعون، ويحفظونه من أحابيل نفسه وتزيين هواه، ويجيرونه من همزات الشياطين، وزخرف قول الإنس والجن: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)﴾ (الأنعام).
كما أن إخوانه في أهله يخلفون، ومن أجله يقدمون ويضحون. وبدوره في الجماعة يقومون.
واحذر أخي في الله من تضخم الذات واستعلائها، حتى إنها لتحسب نفسها الجماعة، وبدلًا أن تكون فردًا في جماعة فإذا به يريد للجماعة أن تنحسر لتصير جماعة في فرد.
إن الفرد في الجماعة فرد ذو همة يحيي الله به الأمة، والجماعة من خلف الفرد، هي الأمة التي تمنحه كل وسائل النجاح والتقدم، وتدعمه بكل ما يحقق غايتها والتي هي غايته.
عاشراُ: حكم من رحم السجن
وما أروع الحكمة الناتجة من آتون التجربة والمولودة من رحم السجن والمعاناة والتي يقدمها قريب عهد بالسجن ألا وهو الدكتور محمود أبو زيد أستاذ جراحة الأوعية الدموية بكلية الطب بقصر العيني، وعضو مكتب الإرشاد، المفرج عنه مؤخرًا بعد قضائه ثلاث سنوات خلف قضبان الظلم في المحكمة العسكرية الأخيرة للإخوان، حيث يحدثنا عن القيم التي مَنَّ الله في منحة الاجتباء والاصطفاء فيقول:
«التوكل على الله سبحانه وتعالى هو حسبنا، ومعية الله لعباده، والاقتناع بالمبادئ والالتزام بها وبرسالة الإنسان، التي لا يثني الإنسان عنها حبس أو سجن أو اعتقال، وأن الزوجة والأولاد وذوي القربى الصالحين هم كنز ليس له مثيل، فهناك فرق ضخم بين فرد محبوس يستشعر أن معاناة أهله خارج المعتقل عبء عليه، وبين آخر يشعر أن أهله دائمًا ما يحملون عنه همَّه.
وقيمة أخرى استشعرتها هي، انتماء الإنسان إلى جماعة، وأنه جزء من كلٍّ. هذا الشعور يمحو عن الإنسان شعوره بالحبس؛ لأن باقي الجماعة خارج الأسوار، تكمل المهمة، والدعوة سائرة، والعمل قائم، والجماعة تُشعرنا أيضًا أننا جسد واحد، وبنيان مرصوص.
ومعنى آخر أو قيمة أخرى استشعرتها هي: أن المجتمع المصري في النهاية هو مجتمع محب لدينه، ولمست هذا في احتفاء الناس بنا لحظة الإفراج، والمثير للدهشة أن جيراني المسيحيين كانوا أكثر الجيران سؤالًا عني لما يربطنا من حسن جوار علمنا إياه الرسول الكريم ﷺ».
وحكمة أخرى في نفس السياق من رحم السجن يهديها لنا الدكتور محمد على بليغ، حاصل على (دكتوراه في أمراض العيون) وأستاذ الرمد في معهد بحوث أمراض العيون في الجيزة، ومستشفى رمد الأزهر، وأحد الأربعين المحالين للقضاء العسكري بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان، يصف حاله وحال إخوانه الذين حصلوا على أحكام البراءة في لحظات تنفيذ الأحكام، فيقول:
«خرجنا من باب الزنزانة تسبقنا دموعنا وذكريات عام ونصف العام نراها بين أعيننا، تارةً نتقدم خطوةً ونتراجع أخرى، ناظرين خلفنا لعلنا نستطيع أن نصطحب إخواننا في أيدينا، وتارةً نمشي سريعًا حتى ينقضي هذا المشهد الحزين، أو لعل الزمان يعود بنا يومين إلى الوراء لينطلق حكم البراءة عاليًا يدوي بين جدران المحكمة فتصرخ الجدران بالتكبير فرحةً متهللةً بالعدل الذي عم أرجاءها، ونهوي على الأرض سجدًا نحمد المولى القدير الذي جعل لنا مخرجًا، لكن هذا لم يحدث، فقد خرج كل منا تاركًا خلفه جزءًا من نفسه، وبحثتُ في نفسي، وبحث كل منا في الجزء الباقي من نفسه، فلم يجد به مكانًا لفرحة الخروج، فبعد أن ودعنا إخواننا بنشيد الله غايتنا، رحلنا وكأننا ننسلخ من جلودنا، أو نقتلع من جذورنا، وكم كنت أتمنى أن أنتظر معهم لبضعة أيام أخرى حتى تهدأ الأنفس وتستقر الأمور».
أخي في الله:
أناشدك الله أن تبقي على حياتك، وأن تلزم غرزك، وإياك والهوى، والاغترار بالحياة الدنيا، واحذر الوقوع في أحابيل الشيطان، بما يلبسه علينا من غايات، ظاهرها السمو والحرص على الجماعة، ومن ورائها انحدار من حيث لا نعلم ولا نشعر. ولا يظنن ظانٌ أن مشقات الطريق من أخطاء العاملين، وأن المهادنة تنجينا من قسوة الظالمين، بل يجب أن نكون على يقين من أن الله وحده هو الذي ينجينا ويأخذ بأيدينا، وليس على المسلم إلا أن يواصل العمل، ويسأل الله الثبات على الحق، والتوفيق للخير، والسداد في القول والعمل، فهو وحده ولي ذلك ومولاه والقادر عليه، وهو نعم المولى ونعم النصير.
——————— (5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ 6/175 (2887). (*) انتهي الجزء الثالث والأخير من مقال (روح الجماعة).