صدى الليل في النهار – د. محمد حامد عليوة

صدى الليل في النهار د. محمد حامد عليوة

لا شك أن ليل المؤمن له صدى في نهاره، فمن أحيا ليله بذكر وركعات؛ وعمَّره بتلاوة وطاعات؛ وأناره بأوراد ودعوات، وَجَدَ أثر ذلك في نهاره؛ عونًا وفتوحات، وتوفيقًا وهدايات. (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17)) (سورة محمد)

نعم.. إنها حلاوة الطاعة في الليل والناس نيام، حين يخلو العبد بربه، وينفض عن نفسه رداء الكسل، ومُتع الفراش، وجواذب الأرض والهوى، وينهض ناصبًا أقدامه بين يدي ربه، أو متقلبلًا في ليله بين تلاوة أو ذكر أو فكر.

نعم.. إن ليل المسلم له صدى في نهاره، فمن تزود من معين الليل، كان ذلك له خير معين في حركته ودأبه في النهار. ومن كان له حال مع ربه فى الليل، تحسنت أحواله كلها فى النهار.

نعم.. لا بدَّ أن يُرى أثر قيامك وطاعتك ليلًا فيمن حولك نهارًا، ففي الليل من الفتوحات والفيوضات التي يلزم الاغتراف منها والتعرض لها، حتى توزع من ذخائرها على من حولك في النهار.

يقول الشيخ حامد العليّ:
«لقد علم العارفون، وأيقن الربانيون أنَّ قيامَ الليل مدرسةُ المخلصين، ومضمارُ السابقين، وأنّ الله تعالى إنما يوزّع عطاياه، ويقسم خزائن فضله في جوف الليل، فيصيب بها من تعرض لها بالقيام، ويحرم منها الغافلون والنَّيام وما بلغ عبدٌ الدرجات الرفيعة، ولا نوَّر الله قلبًا بحكمة، إلاّ بحظ من قيام الليل.
والسرُّ في ذلك أن العبد يمنع نفسه ملذّات الدنيا، وراحة البدن، ليتعبّد لله تعالى، فيعوضه الله تعالى خيرًا مما فقد. ولهذا لا تجد أصح أجسادًا من قوَّأم الليل، ولا أسعد نفوسًا، ولا أنور وجوهًا، ولا أعظم بركة في أقوالهم، وأعمالهم، وأعمارهم، وآثارهم على الناس».

وإنى لأعجب أشد العجب من كلام الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله، حين لمس بكلامه القلب، وهز به المشاعر، وهو يقول – ناصحًا وموجهًا -: «يا أخي: اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار».(1)

الله.. الله.. على قيام الليل حين ينام الناس وتقوم أنت بين يدي رب الناس الذى لا يغفل ولا ينام، تناجيه وتتضرع إليه. ولاحظوا قوله: (تغترف) ففيها من الشوق والرغبة للتزود ما فيها، تتزود من المعين الصافي، معين الليل وزاد الخوافي.

ودققوا الفكر في قوله: (ما توزعه على إخوانك بالنهار)، إنها الآثار والثمار، حين قبل عليك إخوانك لإقبالك على ربك، يتزودون منك من رصيدك الذى تزودته في ليلك. فمن أقبل على الله بقلبه؛ أقبل الله بقلوب العباد عليه.

وفيه أيضاً: أن العباد في الليل هم الدعاة المصلحون في النهار، يتزودون ليستطيعوا الحركة بالدعوة والإصلاح في مجتمعاتهم، وهكذا يربينا القرآن ونحن نقرأ سورة المزمل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)). فهذا السبح الطويل في النهار لابد له من قيام للتزود في الليل.

وفيه أيضا: أن رهبان الليل من الدعاة والمصلحين، لا ينقطعون عن محيطهم ولا ينسون إخوانهم ومريدهم، فتراهم يوزعون من خير ليلهم على إخوانه ومحيطهم. بل لا ينسون إخوانهم ومحيطهم في قيامهم فتراهم يذكرونهم بالدعاء في الليل والدعوة والإصلاح في النهار.

فلقد سُئل الإمام البنا يوماً عن سر إقبال الناس عليه والإنصات إليه، وعن حب إخوانه له والتفافهم حوله، فأجاب: «كنت أدعوهم بالنهار وأدعو لهم بالليل».

وإليكم بعض فضائل وآثار قيام الليل على صاحبه:
– عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسال الله خيرًا من أمر الدنيا، والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة». (رواه مسلم)
– وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: عن رسول الله ﷺ قال: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم». (رواه الترمذي)
– وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: قالا: قال رسول الله ﷺ: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا، أو صلّى ركعتين جميعًا، كتبا في الذاكرين والذاكرات». (رواه أبو داود)
– وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: جاء جبريل إلى النبيّ ﷺ فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس». (رواه الطبراني في الأوسط)
– وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل». (رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي).
– وهذا سعيد بن المسيب يقول: «إنَّ الرجل ليقوم الليل، فيجعل الله في وجهه نورًا، يحبه كلُّ مسلم، فيراه من لم يره قط، فيقول إني أحبّ هذا الرجل».
– ولما سُئل الحسن البصري: «ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟» فقال: «لأنهم خلوْا بالرحمن، فالبسهم من نوره».
اللهم اجعلنا من أهل قيام الليل، الذين يتزودون فيه لنهارهم ويتحركون به في بيوتهم ومجتمعاتهم، ويوزعون من فيضه على من حولهم، مخلصين لك الدين يا رب العالمين.

———————–
(1) المصدر: من مقال للإمام حسن البنا، بعنوان (سبيل الظفر. عبادة ثم قيادة)، نُشر في جريدة (الإخوان المسلمون) بتاريخ (25 ربيع الأول 1356 هـ، الموافق 4 يونيو 1937م.

اترك تعليقا