عن الدعوة والداعية (2) – بقلم: الدكتور صلاح عبد الحق
قدرته على الابتعاد عن الغموض والتعقيد أدرك الإمام البنا -رحمه الله- ما أصاب الأمة من اغترابها عن مرجعيتها الإسلامية في مظاهر حياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وهي تداعيات مؤسفة أليمة لحادث فاجع مؤثر هو سقوط الخلافة وانحسار ظلها، فطرح الرجل فكرته من أجل إحياء أمته كصيغة من الحق تلتقي عليها الأمة، فقد كان يدرك أن حاجة الفكرة إلى الأمة أكبر وأولى، وأن الجماعة مهما اتسعت فلن تكون الأمة، وأن الجماعة إذا احتكرت الفكرة أضرت بها؛ لأنها إذا اختفت أو تقلص دورها -تحت قساوة الظروف- ظلت الفكرة تبحث عن من يتبناها؛ فطرحها جامعة لا تحمل طابعًا خاصًا، قوامها العلم والتربية والجهاد.
وطرحها واضحة تصل إلى الناس بلا عوائق: «الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء». وطرحها بسيطة تناسب كل بيئة، فليست هناك بيئة تناسبها وأخرى لا تناسبها، كتب يوما في مذكراته: «نتقدم بدعوتنا لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مهما كان مقصرا فيما دون ذلك من تعاليم الإسلام وأفكاره».
كما عرض دعوته في بلاغة وإيجاز جامعًا مبادئها في خمس كلمات: «الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أمنيتنا، وملخصا مظاهرها في خمس كلمات (البساطة والتلاوة والصلاة والجندية والخلق)».
هكذا في بيان موجز وعرض سريع يناسب كل بيئة: هؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا بها ويعملوا لها. وهؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا بها ولا ينتمون إلى تنظيم يعمل لها إيثارا للسلامة أو ابتعادا عن ملاقاة الصعاب. فكان يرى فيهم رأيا عاما يعمل دون إكراه بشكل مؤثر وفعال وهو ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عامل، واثقاً أن من تأخر عنا اليوم فسيلحق بنا غداً.
وعرضها محددة يسهل الاستدلال عليها فكتب يقول: «والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات».
كتب عنه روبير جاكسون يوما فقال: «سألته عن غاية ما يريد؟ فأجاب في صراحة ووضوح بأسلوب سهل محدد أسمعت عن محمد ﷺ؟ فقلت نعم. فقال أتعرف ما صنع؟ فأجبت نعم. فقال نحن ندعوا إلى ما دعا إليه؛ لنصنع ما صنع. فأدركت أن الأيام لن تمهله، لأن الحوادث أكبر منه».
كما سئل يوما إلام تدعو؟ فأجاب بأسلوب بسيط مباشر: «ندعوا إلى الإسلام الذي جاء به محمد ﷺ والحرية فريضة من فرائضه، والحكومة جزء منه». فأشار بأسلوب محدد وعلى نحو جديد إلى غاية فكرته وعزائم دعوته من الحرية والحكم.
فأما الحرية فقد قررها الإسلام للجماعات والأفراد، والأمم والشعوب. وهي التي أشار إليها نبيه ﷺ قديماً «من أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس مني». رواه الطبراني في الأوسط. والتي نادى بها الفاروق فأصغى له مسمع الدهر: «مذ كم يا عمرو استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا».
وأما الحكم فليست هناك حركة إصلاحية إلا واحتاجت إلى السلطة لإنجاز وعودها وتحقيق آمالها ومناصرة مبادئها. إنها حكمة الأيام وتجربة التاريخ. وسل التاريخ ينبئك.
وعرضها أصيلة ليست اختراعا جديدا، كتب التاريخ لا تزال تحفظها وذاكرة الأمة لا تزال تعييها، فكثيرا ما كان يردد: «إن ما ندلي به إليكم ونقصه اليوم عليكم كان عند أسلافكم بدهياً قريباً في الوقت الذي هو عندكم غامضاً بعيداً».
وقد اختار -رحمه الله- في عرض فكرته أسلوبا بسيطاً مباشراً دقيقاً فريداً منتجاً مؤثراً، أظهر به قدرته على الاقتراب من الجماهير. يقول الأستاذ عباس السيسي في مذكراته: «كان -رحمه الله- يحدث الناس كأنه يعرفهم ويعرفونه». والذين كتبوا عنه قالوا أنه كان يخطب كأنه يتحدث ويكتب كأنه يتكلم.
كتب في مذكراته عن هذا الأسلوب الفريد الدقيق البسيط المباشر الذي خاطب به يوما هؤلاء البسطاء المغمورين من جمهور الشوارع والمقاهي: «فأخذت لذلك أسلوبا تذكيريا خليطا من الترهيب والترغيب بعيدا عن اللوم والتأنيب والتعريض والتجريح رغم حضور الآثام والمنكرات، واخترته خطابيا مؤثرا خليطا من العربية والعامية – وكان يعطي العامية جلال العربية حتى لا تنبو عنه الأذواق – بعيدا عن النفرة والغلظة والأستاذية، جذابا مشوقا، باعثا على التشويق والتساؤل».
كان يعمد إلى المعنى المراد فيوضحه، والاستشهاد المقصود فيشرحه بعيدا عن الأساليب الاصطلاحية والتعبيرات الفنية حتى لا يطيل ولا يمل ليترك المعنى في النفس واضحا وافيا.
وقد أعانه على ذلك حضوره المحبب وعطفه الطيب وحنانه الطهور. كانت كل كلمة منه تزيل وحشة، وترفع حاجزا، وتدني مسافة. كانت المعاني تبدوا حاضرة في الأعماق بأريحية مأنوسة تداخل النفس على مهل دون اقتحام أو عناء. من فهم فهو قريب ومن لم يفهم غير بعيد؛ فكان لذلك الأسلوب نتائج ملموسة في نفوس سامعيه.
كان يرى في الغموض والتعقيد دليلا على الخوف والخجل وعدم الصدق وفقدان الثقة بالنفس. وكان يدرك أن الوضوح يعني الصدق والثقة بالنفس، كما أنه دليل على ثقة لا حدود لها بفكرته، وان لها حليف من الغد المأمول. كان لذلك الأسلوب الجذاب المشوق ما يبعث على الرغبة في التساؤل؛ فتاتي الإجابة غير وافية ولا شافية استرعاء لقلوبهم وجذبا لانتباههم وانتهازا للفرصة السانحة وتهيئة للنفوس الجامحة كما ذكر ذلك في مذكراته.
كان يعلم -وهو المعلم القدير- أن من سأله وخرج يتبعه هو من أدرك أنه لا يغني عن العمل الكلام. ليبدأ معهم خطوته الجريئة الموفقة من التعليم والإرشاد والتعهد والرعاية والتنظيم والرقابة.
فقد سمع من هؤلاء البسطاء المغمورين يوم أن زاروه يحدثونه عن حقيقة ما فهموا من حديثه وعظته ما أرضى همته وشفى غليله. فقد أخبروه أنهم علموا أن عليهم واجبا ينبغي أداؤه، وأن لديهم طاقة ينبغي ألا تدخر إلا في خدمة وطنهم وقضايا دعوتهم الكبرى؛ فبات مبرود الغليل.
كتب حول ذلك معلقا: «إن دعوة يرضى أصحابها أن يعيشوا بها ويموتوا في سبيلها لا بدَّ أن تنتصر، وإن قل عددها وضعفت عدتها. وحول هذه الفكرة وعلى هذه الصورة وبهذه التسمية قامت دعوة الإخوان».
———————– انتهى الجزء الثاني من سلسلة: (عن الدعوة والداعية) ويتبعه الجزء الثالث إن شاء الله