قانون العمل الثمر

قانون العمل الثمر – بقلم: الأستاذ البهي الخولي – رحمه الله (*)

أيها الأخ: اجعل مثلك الذي تقتدي به في التبليغ هو رسول الله اهتم بدعوتك وانصب لها نفسك في محيطك في قريتك في مدينتك أو أمتك.

واقتحم بها إلى كل مجلس وناد وتحين لها كل فرصة سانحة.

وتخير لأحاديثها ما يلقى الناس من كوارث وآلام.

ولا تجعل كلامك مقصوراً على الجنة والنار والبعث والحساب والقلب والبدن بل بث ذلك بثاً في ثنايا حديثك عن شذوذ الأوضاع وبلايا المطامع وفساد الأخلاق.

ولا تكف عن الكتابة والخطابة والحديث والسعي حتى تحيا دعوتك في القلوب ويشتغل بك الجميع في حضورك وغيابك هكذا يكون الداعية جادا غير لاعب، شجاعا غير خائف، عمليا غير خيالي، ممتزجا بآلام الناس وآمالهم .

لا تجعل أحدا يخاصمك لعيب في أسلوبك الخاص وطريقة معاملتك بل دع الذين يخاصمونك يخاصمونك في جوهر الدعوة نفسها فإنهم حينئذ لا يخاصمون إلا الحق.

الدعوة إنما تنتصر بقلوب من يؤمنون بها لا بأموالهم ولا بجاههم ولا قواهم البدنيةن فإذا أقبل عليك إنسان فلا عليك أن يكون غنيا أو فقيرا سيدا أو سوقه (أي من أواسط الناس) فحسبك أنك ظفرت منه بقلب.

وحذار أن تفرط في شخص ما مهما بدا لنا أنه تافه الرأي شاذ السلوك (ما خالف القاعدة) فإن لكل شخص مزية وإن الله سبحانه أعدل من أن يخلق شخصا ما دون أن يسلحه بمواهب جليلة والعبرة بحسن الاهتداء إلى هذه المزايا واستخراجها والانتفاع بها.

وقد يكون لأحد هؤلاء من المواقف ما لا يبلى فيه غيره بلاءه، فأشغل كل واحد ممن حولك بعمل، وأعط كلا ما تميل إليه نفسه ليشعر أنها دعوته وأنه منها وهي منه واستغل كل قوة وموهبة.

اقبل كل من يعطيك من ظاهر أمره الاستعداد للعمل معك والاستقامة على أمر الله وليس لك أن ترده بحال من الأحوال وتعهده من آن لآخر بالنصيحة والموعظة.

إن قانون الله العمل، فمن أخذ به فقد وضع الله في يده مفاتيح الدنيا.

وإن قانون العمل الثمر، ولا عمل بلا ثمر، وليس الثمر مالا ولا عقارا إنما هو ازدهار الفضيلة وقوة للحق وتمكين لكل معاني الخير، ومن غابت عن عينه ثمار عمله فان لحصاد الزرع وقتا لا يعلمه إلا الله، ولكنه لن يخرج من الدنيا إلا ويكشف الله له عما عمل ويريه ثمار ما عمل .

إن الذي ينهض للعمل مع المجتمع فإنما توضع في يده باسم الله مفاتيح الدنيا وسر إدارتها مفاتيح كنوزها وقصورها وخزائنها وممالكها فلينظر أحدكم أي أمانة ألقيت بين يديه بهذه المفاتيح

إن دعوة الضعيف الذي يقبل على الله تعالى بشعور القهر والغلبة تفتح أبواب السماء وتفجر ينابيع الأرض بأسباب النصر وجنده فكان يبرأ إلى الله من حوله وقوته ويقول «اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وأصلح لى شأنى كله، لا إله إلا أنت» (أخرجه ابن حبان عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه – موارد الظمآن 2370 )

وقد روى البخاري عن مصعب بني سعد قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه، فقال رسول الله ﷺ «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم». وفي رواية للنسائي أن سعد ظن أن له فضلا على من دونه من أصحاب النبي، فقال النبي ﷺ «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم».

وكان من ضعف النبي بين يدي الله عز وجل «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى قريب يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي» (صحيح السيرة النبوية إبراهيم العلى ص 136)

يتجهمني : جهمه : أي استقبله بوجه كريه أو أغلظ له في القول .

إن الأعمال الحية بأرواحها الطيبة تلزم صاحبها في حياته وفي مماته حتى يلقى الله بها يوم القيامة وهي تأتيه في قبره تبشره وتقول له: «أنا عملك الصالح» (كما جاء فى حديث البراء بن عازب رضى الله عنه الذى اخرجه أحمد والحاكم فى المستدرك)

إن كل جهد يبذله الداعي في دعوة الحق إنما هو مدد يزيد به رصيد النصر الذي ينتظره، فإذا قعد وكف عن العمل فقد كف عن مدد مؤكد للنصر (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) البقرة143، (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة 128

——————-
(*) الأستاذ: البهي الخولي. ولد الشيخ البهي نجا إبراهيم الخولي عام 1317هـ 1901م بقرية القرشية مركز السنطة محافظة الغربية، نشأ في أسرة متدينة، وكان والده من ذوي النعمة واليسار.
تدرج الأستاذ البهي في مراحل التعليم من كتاب القرية؛ حيث حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والحساب إلى أن بلغ دور الصبا، فدفع به والده إلى المعهد الأحمدي بطنطا، ومنه التحق بدار العلوم في القاهرة، وفيها تفتحت مداركه ونضجت مواهبه وتحدد هدفه.
عين بعد تخرجه من دار العلوم مدرسًا في المعاهد الأزهرية بطنطا، ثم انتقل إلى أسيوط، ثم إلى القاهرة، ثم عاد إلى طنطا.
عرف الأستاذ البهي الإخوان من خلال مصادقته للإمام البنا في المرحلة التعليمية الجامعية؛ حيث تزامل مع فضيلة المرشد العام الإمام الشهيد حسن البنا في الدراسة بكلية دار العلوم، وتحولت هذه الزمالة إلى صداقة وإخوة، أتت ثمارها الطيبة في ظهور الدعوة الإسلامية وانتشارها.
أخذ الأستاذ البهي مكانه في صفوف الإخوان منذ وقت مبكر للجماعة، وأصبح أحد أعضاء مكتب الإرشاد العام وعضو الهيئة التأسيسية للجماعة.
كما كان أحد كتاب الدعوة والتربية في الجماعة، وقد أسندت إليه الكتابة في مجلات الإخوان وصحفهم، وقام أيضًا بإلقاء الخطب والمحاضرات في الكتائب والمعسكرات في مختلف شعب الجماعة.
ولقد بلغ حب الأستاذ البهي للإمام البنا وتأثره بفكره وعبقريته حد التصريح بذلك في كتابه (تذكرة الدعاة)، يقول الأستاذ البهي في مقدمة توجيهاته: «إني أقر أن هذا الكتاب ليس كتابًا يعرض للخطبة فيستوعب قواعدها العلمية، ويستقصي أصولها الفنية، ويبني على تلك القواعد ما يريده العلم، ويفرع من تلك الأصول ما يوحي به الفن، ويجد فيه الراغبون ما يشبع رغبتهم، ويمتع عقولهم وقلوبهم، ولكنها أحاديث لم أرجع فيها إلى كتاب مما دوِّن في الخطابة وأصول الوعظ، إنما هي نظرات في كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتجارب خاصة عرضت لي في ميدان دعوتنا العظيمة، ولفتات قبست فيها من عبقرية أستاذنا المرشد رحمه الله، عبقريته الروحية والعقلية، فاقرأها يا أخي على هذا إن أردت قراءتها».
عُرف الأستاذ البهي بقوة الإيمان، وعمق اليقين، وصفاء الذهن، ودقة الفهم، وإشراق النفس، كما أخبر عنه الإمام حسن البنا وغيره من العلماء.
وترك الأستاذ البهي انطباعًا طيبًا عند العلامة الكبير السيد أبو الحسن الندوي الذي قال عند مقابلته: «القلب يمتلئ قوةً وحرارةً بتأثير الأستاذ البهي وروحه القوية وقلبه الفياض بالحب والإيمان حتى شعرت بنشاط جديد».
ويقول عنه الشيخ القرضاوي: «هو رجل ذواقة للمعاني الربانية، عميق الحاسة الروحية، وقد كان يرأس الإخوان في الغربية وكانت محاضراته ودروسه التي يظهر فيها الجانب الرباني، وكان للأستاذ البهي لقاءات خاصة مع مجموعة من الشباب اصطفاهم يصلون الفجر معًا كل أسبوع ويذكرون الله عز وجل، ويعيشون في جوٍّ روحي محلق».
ويقول عنه المستشار عبد الله العقيل: «كان حديثه في غاية العمق، يغوص على المعاني غوصًا، ويستخرج اللآلئ المكنونة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعرضها بأسلوب شيق وروح شفافة، وقلب حي مليء بمحبة الله ورسوله، غيور على الإسلام وأهله، حريص على إنقاذ الأمة من الضياع الذي تعيش فيه نتيجة تسلط الأعداء الذين صرفوا الناس عن الإسلام وحاربوا كل مظاهره ومشاعره».
والأستاذ البهي الخولي ذو طبيعة صافية تغلب عليه النزعة الصوفية الملتزمة البعيدة عن خرافات التصوف وأدعيائه؛ لأنه منضبط بضوابط الكتاب والسنة، متبع لمنهج السلف الصالح من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
توفي الأستاذ البهي الخولي بعد حياة حافلة بالدعوة والتربية في 27/ 12/ 1977م الموافق 16 محرم 1398هـ عن ست وسبعين عامًا، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجعل آثاره في ميزان حسناته.

اترك تعليقا