تحت عنوان (مصلحة الدعوة) تدفع الحماسة والحرارة بعض أصحاب الدعوات – بعد الرسل – والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها، تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصمونها. ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم. وذلك حرصاً على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها، واجتهاداً في تحقيق (مصلحة الدعوة).
يُجيب عن ذلك الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – في تفسيره للآيات من (57:52) من سورة الحج فيقول: «الله الذي يحفظ دعوته من تكذيب المكذبين، وتعطيل المعوقين، ومعاجزة المعاجزين. يحفظها كذلك من كيد الشيطان، ومن محاولته أن ينفذ إليها من خلال أمنيات الرسل النابعة من طبيعتهم البشرية. وهم معصومون من الشيطان ولكنهم بشر تمتد نفوسهم إلى أماني تتعلق بسرعة نشر دعوتهم وانتصارها وإزالة العقبات من طريقها. فيحاول الشيطان أن ينفذ من خلال أمانيهم هذه فيحول الدعوة عن أصولها وعن موازينها. فيبطل الله كيد الشيطان، ويصون دعوته، ويبين للرسل أصولها وموازينها، فيُحكم آياته، ويُزيل كل شبهة في قيم الدعوة ووسائلها: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَأنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَأنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَأنُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَأبُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَأبٌ مُّهِينٌ (57)) سورة الحج.
لقد رويت في سبب نزول هذه الآيات روايات كثيرة ذكرها كثير من المفسرين.
قال ابن كثير في تفسيره: «ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. والله أعلم». وأكثر هذه الروايات تفصيلا رواية ابن أبي حاتم. قال: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي، حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر.
وكان رسول الله ﷺ قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم. فلما أنزل الله سورة النجم قال: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى(20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى(21))، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال: (وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى). وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته. فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلت بها السنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه. فلما بلغ رسول الله ﷺ آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيراً فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله ﷺ فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين.
ولم يكن المسلمون سمعوا الذي القى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم – أي المشركون – لما القى الشيطان في أمنية رسول الله ﷺ وحدثهم به الشيطان أن رسول الله ﷺ قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين: عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)). فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدوا عليهم».
قال ابن كثير: وقد ساق البغوي في تفسيره روايات مجموعة من كلام ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سال ها هنا سؤالا: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله – صلوات الله وسلامه عليه – ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك. فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ﷺ وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن ﷺ، والله أعلم.
وقال البخاري: قال ابن عباس: (فِي أُمْنِيَّتِهِ) إذا حدث القى الشيطان في حديثه. فيبطل الله ما يلقي الشيطان (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ). وقال مجاهد: (إِذَا تَمَنَّىٰ) يعني إذا قال ; ويقال (أُمْنِيَّتِهِ): قراءته.
وقال البغوي: وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: (تَمَنَّىٰ) أي تلا وقرأ كتاب الله (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في تلاوته.
وقال ابن جرير عن تفسير (تَمَنَّىٰ) بمعنى تلا: هذا القول أشبه بتأويل الكلام!
هذه خلاصة تلك الروايات في هذا الحديث الذي عرف بحديث الغرانيق. وهو من ناحية السند واهي الأصل. قال علماء الحديث: إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة. وقال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ بإسناد متصل يجوز ذكره وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلا من أصول العقيدة وهو عصمة النبي ﷺ من أن يدس عليه الشيطان شيئا في تبليغ رسالته.
وقد أولع المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث، وأذاعوا به، وأثاروا حوله عجاجة من القول. والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة، بل لا يصح أن يكون موضوعا للمناقشة.
وهناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون أن يكون سبب نزول الآية شيئا كهذا، وأن يكون مدلوله حادثاً مفرداً وقع للرسول ﷺ فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ). فلا بد أن يكون المقصود أمراً عاماً يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعاً، بوصفهم من البشر، مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل. وهذا ما نحاول بيانه بعون الله. والله أعلم بمراده، إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري.
إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه. . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق. يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المالوفة!
ويودون. ويودون. من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم. هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء.
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات، فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول ﷺ وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بيانا في القرآن.
بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب: (والله عليم حكيم). فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين، فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد). وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وفي حياة النبي ﷺ وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا، تغنينا عن تأويل الكلام، الذي أشار إليه الإمام ابن جرير رحمه الله. نجد من ذلك مثالا في قصة ابن أم مكتوم – رضي الله عنه – الأعمى الفقير الذي جاء إلى رسول الله ﷺ يقول: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، ويكرر هذا القول والرسول ﷺ مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش، وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول الله ﷺ مشغول بهذا الأمر. حتى كره، رسول الله ﷺ إلحاحه فعبس وأعرض عنه. فأنزل الله في هذا قرآنا يعاتب فيه الرسول عتابا شديدا: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)) [سورة عبس].
وبهذا رد الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة. وصحح تصرف رسول الله ﷺ الذي دفعته إليه، رغبته في هداية صناديد قريش، طمعا في إسلام من وراءهم وهم كثيرون. فبين الله له: أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد. وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة، وأحكم الله آياته. واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين. ولقد كان رسول الله ﷺ بعد ذلك يكرم ابن أم مكتوم. ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل لك من حاجة؟» واستخلفه على المدينة مرتين.
كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد – هو ابن أبي وقاص – قال: كنا مع النبي ﷺ ستة نفر. فقال المشركون للنبي ﷺ: أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان نسيت اسميهما. فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)) (الأنعام).
وهكذا رد الله للدعوة قيمها المجردة، وموازينها الدقيقة. ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة. ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول الله ﷺ وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء، وما يتبع إسلامهم من إسلام الالوف معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم – كما كان يتمنى رسول الله ﷺ والله أعلم بمصدر القوة الحقيقية، وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيا ولا عرفا جاريا!
ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله ﷺ فقد زوجها من زيد بن حارثة – رضي الله عنه – وكان قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له: زيد بن محمد.فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) وقال: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ)، وكان زيد – رضي الله عنه – أحب الناس إلى رسول الله ﷺ فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش – رضي الله عنها – فلم تستقم بينهما الحياة.
وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه. فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه. فأخبره رسوله ﷺ أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد – لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة – ولكن النبي ﷺ أخفى في نفسه ما أخبره به الله. وكان كلما شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) مراعيا في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد. وظل يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد. فأنزل الله في هذا قرآنا، يكشف عما جال في خاطر الرسول ﷺ ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسالة عليها:
ولقد صدقت عائشة – رضى الله عنها وهي تقول: لو كتم محمد ﷺ شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله ﷺ من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه. ولم يمكن للشيطان أن يدخل من هذه الثغرة. وترى الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة، مادة للشقاق والجدال لا تزال. هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات. والله الهادي إلى الصواب.
«ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات – بعد الرسل – والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها. تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصمونها.
ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم. وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها. واجتهادا في تحقيق (مصلحة الدعوة) ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير. أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله.
فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج، إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدعو نتائج هذه الاستقامة لله. ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف.
وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم الدعوة. وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم. فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية. والتحرج البالغ، خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة والحرص على ما يسمونه (مصلحة الدعوة).
إن كلمة (مصلحة الدعوة) يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات؛ لأنها مزلة، ومدخل للشيطان يأتيهم منه حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص!» (1).
«ولقد تتحول مصلحة الدعوة إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة، وينسون معه منهج الدعوة الأصيل. إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها، ويتحروا هذا النهج، دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرًا على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيرًا أو قليلًا. والله أعرف منهم بالمصلحة، وهم ليسوا بها مكلفين، إنما هم مكلفون بأمر واحد، الا ينحرفوا عن المنهج، والا يحيدوا عن الطريق»(2).
————— (1) في ظلال القرآن (من تفسير سورة الحج). (2) أفراح الروح، سيد قطب.