مفهوم المجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة إلى الله

مفهوم المجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة إلى الله
يعني الجدل في القرآن الكريم المحاورة لإظهار الحق، فقد يضطر الداعي في موقفه أمام خصمه العنيد إلى استعمال الحجج المقنعة والمجادلة المفحمة، فالجدال لم يكن مسلكًا مقصود بذاته، ولكن قد يضطر له الداعي عندما يكون الخصم مشاغبًا، فالجدال إذن لا يكون إلا بقدر الحاجة، والإرشاد القرآني أن يكون الجدال بالتي هي أحسن، فقوله-تعالى-:
(وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هي بيان لوسيلة ثالثة من وسائل الدعوة السليمة.

أي: وجادل المعاند منهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق وأجملها، بأن تكون مجادلتك لهم مبنيّة على حسن الإقناع، وعلى الرفق واللين وسعة الصدر فإن ذلك أبلغ في إطفاء نار غضبهم، وفي التقليل من عنادهم، وفي إصلاح شأن أنفسهم، وفي إيمانهم بأنك إنما تريد من وراء مجادلتهم، الوصول إلى الحق دون أيّ شيء سواه.

وقد وردت (للمجادلة) ألفاظٌ مرادفة كالمحاجة والمخاصمة، فإن كانت الغاية حقًا كان الجدال محمودًا، وإلا كان مذمومًا، فالغاية هي التي تُفرّق بين الجدال المذموم والمحمود.والوسيلة إن كانت حسنة كان الجدال محمودًا، وإلا كان مذمومًا.

صورة حيّة من السيرة النبوية رسمت معنى المجادلة بالتي هي أحسن: ومن الوقائع العملية في تطبيق معنى المجادلة بالتي هي أحسن التي أرشد إليها القرآن الكريم، مجادلة النبي ﷺ وحواره لرجل من سادات قریش، فبعد أن أدرك زعماء قریشٍ فشلهم في مختلف الأساليب التي منها عرضهم على سيدنا محمد ﷺ الملك والمال والسلطان والجاه، أرسلوا إليه أحدهم وهو عتبة بن ربيعة، وكان سيَّد قومه، فجاء إلى النبي ﷺ فكلمه واستعمل معه كل وسائل الإغراء بأسلوب مؤثر، ورسول الله ﷺ يسمع لقوله، دون أن يقاطع حديثه، أو يقسو عليه منتهجًا الحكمة والموعظة الحسنة في مناظرته، حتى إذا ما فرغ عتبة من كلامه، قال له – عليه الصلاة والسلام -: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قال: نعم. قال ﷺ: «فَاسْتَمِعْ مِنِّي».
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)) [سُورَةُ فُصِّلَتْ]. حتى انتهى إلى آية السجدة فسجد، ثم قال: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ».

فقام عتبة إلى قومه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطیعوني، واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل، وبين ما هو عليه، فاعتزلوه، فو اللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قالوا: سَحَرَكَ وَاَللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. [السيرة النبوية لابن هشام 1/262]

كما أن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم – اتبعوا في دعوتهم ذات أسلوب اللين والرفق والحلم والصبر، تجاه المستضعفين المسالمين، فنالوا بذلك ثقتهم، وبادرت جماهيرهم إلى اعتناق الإسلام طواعية، وذلك من خلال ما لمسوه لديهم من حسن المسلك، ونقاوة السيرة، وما يتفق مع العقل والمنطق.

ما كان الإسلام ليقر مبدأ التعسّف لنشر دعوته ولا التضليل بالناس والتغرير بهم، وإنما جاء ليناصب العداء للرذائل ويمحو الزيف والبطلان، فالغاية الطيبة تستلزم دون شكٍ الوسيلة الطيبة.

One Reply to “مفهوم المجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة إلى الله”

  • مثاني يحي

    اللهم بارك فقد وفيتم جزاك الله كل خير الكلام جميل ومختصر نفع الله بكم الامة💜

اترك تعليقا