هذا نص وصية من وصايا أحد علماء الأزهر العاملين، وهو العالم الرباني المجاهد: الشيخ عبد الحليم سعفان – رحمه الله.(1)
ولهذه الوصية الجامعة قصة وهي:
أن أحد المسلمين المهاجرين والمقيمين فى اليابان قد استفتىالشيخ عبد الحليم سعفانفى مسألة تتعلق ببعض الأمور الفقهية والدعوية المرتبطة بالمسلمين فى بلد المهجر(اليابان). فأرسل له الشيخ وصية جامعة مانعة ماتعة، بعنوان:(هذه وصيتي)، تحدث فيها عن فضل الإسلام وأمة الإسلام، وفضل المسلم والمؤمن، وأن الكون كله خُلِق من أجله لطاعة الله تعالي وعبادته، وواجب الدعوة إلي الله لإنقاذ الناس من نار الدنيا وشهواتها وجحيم الآخرة، إلي جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، ثم ختمها بإجابة السائل عن سؤاله وفتياه.(اقتداء بسنة رسول الله يوسف عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام ومنهجه في دعوة السائليْن عن تأويل رؤياهما، بأن دعاهما للإيمان وعبادة الله وحده أولاً، ثم قص عليهما بعدها تأويل رؤيا كل واحد منهما.
وقد علق الشيخ حجازي إبراهيم ثريا – أحد علماء الأزهر الشريف – على هذه الوصايا بقوله : «هذه وصية ذهبية بأحرف من نور، فهي قرآنية نبوية، والقرآن الكريم نور، والسنة النبوية المطهرة نور، وقد خرجت من قلب منير بالإيمان – أحسبه من المخلصين والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا – وقد بعث فيها من روح فضيلة الشيخ معان لم أقف عليها من قبل، ويعلم الله وأن أعدها وأراجعها كنت أدعو لفضيلة الشيخ رحمه الله وأسكنها فسيح الجنان وألحقنا به على خير.
أيها الأخوة الأحباب: أقرأ بقلبك وتدبر ببصيرتك وأفرغ لها وقتا واقرأها مرة ومرة واصبر نفسك معها حتى تخلص إلى نهايتها، فلعلها تجدد إيمانك، وتبعث فيك الحياة».
ويسر موقع (زاد السائرين) أن يعرض عليكم نص وصايا الشيخ عبد الحليم سعفان، وقد ذيلناها بترجمة بسيطة حول فضيلته، رحمه الله تعالى، وأجزل مثوبته. ونترككم مع الوصايا.
(هذه وصيتي)
الأخوة الكرام:
سلام الله تعالى ورحمته وبركاته عليكم وعلى من معكم من المسلمين وعلى كل مسلم صدق ما عاهد الله عليه مصدقاً لقوله عز شأنه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا. لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًاً) (الأحزاب: 7:8).
وبعد..
فلقد سرني كثيراً أن تكونوا من أهل العزائم والوفاء بهذا الميثاق الغليظ، وأن تحرصوا على تحري الحلال الطيب، الذي هو أساس قبول الأعمال مصداقاً لما صح عنه ﷺ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51] وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟».(1)
وإنه ليسرني ويسعدني كثيراً ألا يكون عملكم في الدنيا وتجشمكم هذا السفر الطويل الشاق من أجل حطام الدنيا.
أجل، فإني أعيذكم وأعيذ كل مسلم بالله تعالى أن يكون ممن قال رسول الله ﷺ فيه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ». وَقَالَ: فَتَعْسًا: كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَأَتْعَسَهُمُ اللَّهُ، طُوبَى: فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ.(2)
وأرجو وأحب من كل قلبي أن أهنئكم وأهنئ كل مسلم بقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33).
ولعلى لست في حاجة إلى أن أؤكد لكم أن دعوة الناس إلى الحق هي فرض عين عليكم لأنكم أقرب المسلمين إليهم.
* وكل منكم مسؤول أمام الله تعالى مسؤولية شخصية عن جيرانه وعشرائه منهم، ثم عليكم أن تنقذوهم من شقاء الدنيا، وجحيم الآخرة، إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
حق عليكم أن توقظوا فطرة الله تعالى في نفوسهم، مصداقاً لقوله عز شأنه: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات: 21. فإن هذه أولى خطوات الميثاق الغليظ.
* حاولوا أن تكونوا قدوة لهم بأعمالكم وأقوالكم، واجأروا إلى الله تعالى بالدعاء في قيام الليل أن يرفع الغشاوة عن أعينهم، والوقر عن آذانهم؛ حتى لا يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) الكهف: 101.
*حاولوا أن تُشربوا قلوبهم معرفة الله تعالى، وتوحيده الذي شهدت به فطرتهم يوم أن سألهم الحق تبارك وتعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) الأعراف: 172.
* حاولوا أن تجلوا لهم يد الله تعالى في كل ذرة، وفي كل نعمة ظاهرة أو باطنة من نعمه تعالى التي لا تعد ولا تحصى، في كل نبضة نور، أو نشوة فرح، أو لوعة أو حزن، أو هدأة روع، أو سِنة نوم، أو انبهار عقل، أو سكينة نفس، أو إشراقة أمل، أو غير ذلك من نعم الله تعالى في الأنفس والآفاق: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النمل: 88 (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه: 50. (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران 190 :191)
* وليس المراد بذكر الله تعالى هو مجرد ترديد أسمائه باللسان أو تنغيم كتابه بالأنغام والألحان، وإنما المراد به الذكر الذي تحيا به القلوب، وتتجلى آثاره الإيمانية في السلوك، وذلك بأن يتحقق المؤمن بمثل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). الأنفال: 2:3.
* وإنما كان إفراد الله تعالى ورسوله ﷺ بأصدق مشاعر الحب وأعمقها وأخلصها من حلاوة الإيمان وضرورياته بعد التوحيد؛ لأن ذلك هو مقتضى الفطرة البشرية، فإن الإنسان مادام مفطوراً على حب نفسه، فإنه مفطور بالدرجة الأولى على حب من أعطاها حياتها في نظره، وضمن لها بقاءها وسلامتها من المهالك والآلام، وانطلاقها بكل طاقاتها لتحقيق غاياتها في اعتدال وانسجام وتناسق .
*وتلك هي السعادة التي تحلم بها البشرية والتي لا سبيل إليها في الدنيا والآخرة إلا بهذا الإسلام. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). آل عمران: 85 (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه: 123:124.
* والمؤمن يعلم أن الروح التي بها حياته، هي منحة من الله – تبارك وتعالى – وحده، وكأي ذرة من ذرات جسمه، وأن الحياة في حقيقتها إنما تقوم على قدرة الله تعالى وحده، وتقوم في ظاهرها على نبضات القلب، وذرات الهواء، وعمل الرئتين، وسائر الأجهزة الضرورية، وذلك كله من خلق الله تعالى وحده.
* والمؤمن يعلم أنه لولا فضل الله تعالى وقدرته ورحمته، لما تنسم نسمة الوجود، فضلا عن تلك الحياة الكاملة، التي لا يعلم حقيقتها ولا يمنحها إلا الله تعالى وحده.
* والمؤمن يعلم أنه لولا فضل الله تعالى ورحمته، لبقى الإنسان حفنة من تراب، أو قطعة من صلصال. وأن الله تعالى كان من الممكن أن يخلقه حيواناً من أحقر الحيوانات، أو حشرة من أخبث الحشرات، أو يخلقه فاقد العقل، أو مسلوب الحركة أو الصحة أو الإحساس، أو يخلقه كافرًاً، أو مباءة لجميع الأمراض، ولكن الله تعالى بفضله ورحمته، شاء أن يُحسن خلقه وصورته، فخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وفطره على توحيده، وأشهده على نفسه، وأسجد له ملائكته، وجعله محور هذا الوجود كله، بل هو مقصود العناية الإلهية من هذا الوجود كله، وسخر كل ما في الوجود لسعادته في الدنيا والآخرة، حتى الملائكة وحملة العرش: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا). غافر: 7.
بل إنه تعالى جعل الملائكة أولياء المؤمنين في الدنيا والآخرة (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) فصلت: 31.
فهم في الدنيا: قوام على خلقه ورزقه وتثبيته وحفظه: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ) الأنفال: 12. (أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). الأنفال: 9. (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) آل عمران: 12.
أما في الآخرة:فهم مبشرون له عند موته: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت: 30. المثبتون له عند الفزع الأكبر (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) الأنبياء: 103، المرافقون له في الجنة: (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ) الرعد: 23، مهنئين مُسلمين (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد: 24 .
هذا ومن أعجب العجب أن الله تعالى كما جعل من أسباب سعادة المؤمن ولاية الملائكة له في الدنيا والآخرة، فإنه تعالى قد جعل من أسباب سعادة المؤمن أيضاً ابتلائه بإبليس اللعين.
نعم إن الله تعالى جعل ابتلاء المؤمن بإبليس من أسباب سعادته في الدنيا والآخرة، وحسبنا في ذلك قوله عز شأنه: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) النساء: 76. وقوله سبحانه وتعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران: 142. فجعل سبحانه وتعالى طريق الجنة بعد الإسلام هو جهاد إبليس وحزبه.
بل إنه تعالى أبرم على نفسه في ذلك هذا العهد، الذي سجله في جميع كتبه: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: 111.
وأعظم من ذلك كله أن الله تعالى منح المؤمن ولايته المباشرة مصداقاً لقوله عز شأنه: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران: 68. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) محمد: 11.
وهذه الولاية هي سر سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا: فحسبه أن الله تبارك وتعالى هو الذي فطره على توحيده، قبل أن تتقمص روحه جسده، ثم دعاه إليه على لسان جميع المرسلين: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء: 25. ولولا ذلك لكان المؤمن حطباً لجهنم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) الأنبياء98. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) البينة: 6-7. وصدق الله العظيم (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) الفرقان:77.
فلولا أن الله تعالى دعا المؤمن إلى توحيده بعد أن فطره عليه، ما كان عابئاً به، ولكان المؤمن حطباً لجهنم مع جميع الكافرين: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) النور:21.
* وحسب المؤمن من السعادة بولاية الله تعالى في الدنيا والآخرة، يقينه بأن الله وحده هو الذي تولاه في جميع شؤونه، وفى كل أطواره، بمزيد فضله، وخفيّ لطفه، وصادق عنايته، وحسن تدبيره، منذ لم يكن شيئاً مذكوراً، إلى أن أصبح أهلاً لسماع نداء الله تعالى له: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر: 28-30.
* وحسب المؤمن ثم حسبه من السعادة بولاية الله تعالى، يقينه بأنه إنما بلغ تلك المنزلة بعناية الله تبارك وتعالى وحده، وأن جهود الوالدين فضلاً عن غيرهما من المربين، ليست إلا مظهراً واحداً من مظاهر عنايته ولطفه، ونعمة واحدة من جزيل نعمه، وطاقه واحدة من طاقات هذا الوجود التي سخرها تعالى كلها لخدمته؛ فإنه تعالى هو الذي خلق الوالدين وسخرهما وهيأهما بقدرته، وقذف في قلوبهم من الرحمة به، والمحبة له، ما جعلهما يستعذبان كل تضحية في سبيل راحته: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النمل: 88. (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه: 50 .
* وحسب المؤمن ثم حسبه بولاية الله تعالى ومحبته، ما تقدم من قوله تعالى في الحديث القدسي: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا».
* وحسب المؤمن ثم حسبه أن الله تعالى:
– جعل عزته من عزته: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) المنافقون: 8
* وبهذا كله يتبين أن المؤمنين وحدهم هم محور هذا الوجود، من أجلهم أنزل الله كتبه، وأرسل رسله، ومن أجلهم كانت الدنيا والآخرة، وكانت الجنة والنار، فإنه تعالى:
– إنما خلق الدنيا لتمحيصهم: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) آل عمران: 141.
– وخلقها كذلك ليدفع بها المؤمنين إلى الاعتصام به والفرار إليه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الذاريات 50. (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) آل عمران: 101.
– وأضاف صراطه المستقيم إليهم، وجعل الضلال والغضب والخلود في جهنم جزءا لمن انحرف عن صراطهم أو اتبع غير سبيلهم فقال سبحانه: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) الفاتحة: 6. وقال (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) النساء: 115.
* وما يؤكد ذلك كله أن الله تعالى تعرف إلى المؤمنين في صدر كل سورة من سور القرآن الكريم بالبسملة.
نعم تعرف إليهم بالبسملة التي انتظمت اسم الجلالة الجامع، مقرونا باسميه الكريمين: (الرحمن الرحيم) وهما الاسمان الناطقان بسعة رحمته تعالى وعمومها وخصوصها، وسبقها غضبه.
وتعرف إليهم بذلك في فاتحة الكتاب مرتين حيث قال في ابتدائها: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الفاتحة: 1. ثم افتتحها بقوله سبحانه: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الفاتحة: 2:3. وذلك لأنها أم القرآن الجامعة لمقاصده .
ولقد جاء في السنة أمر رسول الله ﷺ للمؤمنين أن يجعلوا البسملة شعارهم، وأن يبتدئوا بها جميع أعمالهم الشريفة، كما جاء في السنة أيضا أن لله تعالى مائة رحمه يرحم بها عباده المؤمنين يوم القيامة، وأنه تعالى لم ينزل من تلك المائة في الأرض إلا رحمة واحدة، فبها يتراحم جميع الخلائق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه. فحسب المؤمنين ذلك.
* ثم حسبهم أن الله تبارك وتعالى أمر رسوله ﷺ بتزكيتهم والصلاة عليهم أمره بقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة: 103:104.
* وحسب المؤمنين ثم حسبهم:
– أن الله تعالى بنفسه هو وملائكته يصلى عليهم، ويجبيهم عند سعادتهم بلقائه يوم القيامة بالسلام: (سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيم) يس: 58 (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً). الأحزاب: 43:44 .
– وأنه تعالى يتلقاهم ويتجلى عليهم باسمه الرحمن الجامع، لما ثبت في السنة أنه تعالى له مائة رحمة.
هذا في الوقت الذي يحشر فيه غيرهم على وجوههم، حاملين أوزارهم على ظهورهم، مصداقا لقوله – عز شأنه: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً. ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الإسراء: 98:97. وقوله: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) الأنعام:31 .
* وحسب المؤمنين بعد ذلك، ثم حسبهم أن الله تعالى أثنى عليهم برضاهم عن الله تعالى، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة:7: 8.
نعم ورضوا عنه، فأعظم بها من كرامة، وأكرم بها من سعادة، وأخلق بأهلها أن يؤمنهم الله تعالى من الفزع الأكبر يوم القيامة، حيث يناديهم: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُون) الزخرف: 68: 70.
وكيف لا وقد شهد الله تعالى لهم:
– بأنهم خير البرية، وأنهم أهل الخشية الربانية: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة: 8.
– وأنهم الناجون من كل الخسران؛ لأنهم أهل الإيمان والصلاح والتواصي بالحق والصبر كما جاء في سورة العصر: (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). العصر: 1 – 3.
*وحرى بهم أن يكونوا ممن وجدوا حلاوة الإيمان، وممن شهد لهم رسول الله ﷺ بأنهم طعموا طعم الإسلام، لما صح عنه ﷺ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا».(9)
* وحرى بهم أن يفوزوا بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
*وحرى بهم أن لا يقف جزاؤهم عند نعيم الجنان، وإنما يسمو ويسمو إلى درجة الرضوان الأكبر مصداقا لقوله عز شأنه: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: 72 .
* وحسب المؤمنين ثم حسبهم قبل ذلك كله، يقينهم أن تلك العطاءات العظمى، وتلك المنة الكبرى، وهذه النعم التي لا تعد ولا تحصى، إنما هي محض عطاء وفضل ورحمة من الله تعالى وحده، دون أن يكون لنا فيها أي جهد ذاتي، أو أي عمل إيجابي، فإن أساسها كلها هو الإيمان، وليس لنا فيه أي عمل أو كسب حقيقي؛ لأن الله تعالى:
– هو الذي فطرنا عليه: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) الروم: 30.
– وهو الذي قدره لنا بفضله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) التغابن 2. (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) يونس: 100.
– وقال في حق الكفار: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) الأنعام: 111.
– وهو الذي هدانا له: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) يونس: 9
– وهو الذي صبغنا بصبغته: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) البقرة: 138.
– وهو الذي أنزل سكينته في قلوبنا ليزيدنا منه [الإيمان]. (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ) الفتح: 4. (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) مريم: 76.
– وهو الذي شرح صدورنا للإسلام: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) الأنعام: 125.
– وهو الذي ألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا في قَدَرِهِ أحق بها وأهلها: (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الفتح 26.
–وهو الذي دعانا إلى جنته، وهدانا إلى صراطه المستقيم: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يونس: 25.
* فإذا امتلأت نفس المؤمن يقينا بأن الله تعالى وحده هو الذي اختصنا برحمته، ففطرنا على الإيمان، وكتبه في قلوبنا، وأيدنا بروح منه، وأنزل السكينة فيها؛ ليزيدها إيماناً، وهو الذي صبغنا بصبغته، وهدانا به وزادنا هدى، وهو الذي اصطفانا للإسلام، واصطفاه لنا، وشرح له صدورنا، وأنه تعالى هو الذي اجتبانا، وسمانا المسلمين، وجعلنا خير أمه أخرجت للناس، ومنحنا ولايته، وولاية ملائكته، وجعلنا خلفاءه في البشرية بالجهاد والإرشاد: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الأنفال 39. وضمن لنا نصره في الدنيا والآخرة: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) غافر: 51 . (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) الصافات: 171- 173. وأنه تعالى هو الذي آتى نفوسنا تقواها بقدره، وألزمنا كلمة التقوى بقدره وشرعه.
* فضلا عن كل ذلك فإنه تعالى هو البارئ المبدع، الخالق لكل شيء في كياننا وأعماقنا، من المادة والطاقة، والذرة والخلية، والحركة والسكون، والتفاعل والتحول… إلى غير ذلك مما هو به أعلم مصداقا لقوله: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) الأعراف 54. وقول إبراهيم لعبدة الأصنام: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات: 95 – 96.
* وهو سبحانه وحده القيوم المهيمن على ذلك كله، منذ شاء خَلْْْقَِنا إلى ما شاء سبحانه من وجودنا: (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) البقرة: 255.
* فإذا امتلأت نفس المؤمن يقيناً بذلك كله، وبأنه لا يمكن وجود أي مادة أو طاقة أو عمل أو حركة أو سكون أو أي شيء، إلا بمحض قدرته تعالى وخلقه وهيمنته وقيوميته وإرادته بناء ما سبق في علمه وقدره وإرادته مصداقا لقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس82. وقوله: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) الإنسان30. وقوله ﷺ: «مَا شَاءَ اللَّهُ، كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ». ابو داوود: 4/319. رقم: 5075.
فإذا انفعلت نفس المؤمن بذلك كله انفعالا حقيقيا ملك عليه نفسه، استطاع المؤمن أن يدرك مدى فضل الله – تبارك وتعالى – عليه، وتجلت له عند ذلك حقيقة الحقائق الإيمانية، وهي أنه لا جهد له ولا حول ولا قوة، ولا أثر له في أي عمل يعمله، ومن ثم فلا فضل ولا منة له في أي خير اكتسبه، مهما كان شأنه، وإنما الحول والقوة والفضل والرحمة والمنة للخالق البارئ القادر المقتدر الحي القيوم الذي أخرجه من العدم المحض بكل كيانه ومشاعره ورغباته واتجاهاته وخطواته ونبضاته وحركاته وانفعالاته وأعماله وتولاه سبحانه بحوله وقوته وعباذته من شياطين الإنس والجن، وأمده بخشيته وتوفيقه لجميع أعمال الخير التي قدرها له، بوحيها إليه، وخلقها فيه، وصبغه بها دون أن يكون له جهد فيها.
* فإذا انبهرت نفس المؤمن بتلك الحقيقة الإيمانية العظمى، انبهرت بأن الله تعالى مع ذلك كله يسند للمؤمن العمل والإحسان تشريفا وثناء.
نعم إن الله تعالى سند العمل والإحسان للمؤمن تشريفا وثناء، وجزل له أضعافا مضاعفة فضلا وكرما منه وعطاء.
* فإذا انبهرت نفس المؤمن وانبهرت لذلك كله، فإنه حرى بها، ثم حرى بها أن تذوب هيبة وخشية ووجلا وخجلا وحياء من صاحب الحول والطول والجود والكرم والإحسان والفضل دائما أبدا وخاصة عند سماع مثل قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. ذَوَاتَا أَفْنَانٍ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُما تُكَذِّبَانِ. كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن: 46 – 60. وقوله للمؤمنين يوم القيامة: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الزخرف: 72 .
يا سبحان الله ثم يا سبحان الله.. ومتى كان للمؤمنين عمل وإحسان إلا من صاحب الجود والفضل والحول والإحسان: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) آل عمران: 73. (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) البقرة: 105. (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) يونس: 58.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
وصلوات الله تعالى وسلامه دائما وكاملا على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وجميع المؤمنين وسلم تسليما كثيرا وآته الوسيلة والحمد لله رب العالمين.
———————————————
(*)الشيخ عبد الحليم بن وهبة سعفان، وُلد بشبن الكوم محافظة المنوفية – مصر، عام 1914م. وكان والدة الشيخ وهبة يعمل مؤذنا بمسجد سيدي لاشين بشبين الكوم. كف بصرة و هو في الخامسة من العمر، و حفظ القران و هو صغير. التحق بالأزهر من المرحلة الإبتدائية حتى حصل على الشهادة الثانوية الأزهرية عام1933م.
ثم أكمل دراسته بالأزهر حتى حصل علي الشهادة العالية بكلية أصول الدين عام 1942م، ثم علي شهادة العالمية في أصول الدين مع إجازة التدريس من الأزهر الشريف عام 1944م، ثم حصل علي شهادة العالمية في أصول الدين مع الإجازة في الدعوة و الإرشاد من الأزهر عام 1947م و كان الثاني علي الدفعة , وكرمة الملك فاروق تكريما يليق به .
عين بعدها واعظا بمساجد الصعيد ثم مدرسا بمعهد قنا الأزهري مدة عامين و بعدها انتقل للعمل بمعهد منوف الديني , ثم استقر بالمعهد الأزهري بشبين الكوم لتدريس الحديث الشريف و الفقه الشافعي بجانب لدعوة إلى الله.
كان رحمة الله امة في العلم و الفقه، و كان قلبه و بيته و مجلسة بمسجد الأنصاري شبين الكوم مفتوحا لكافة الناس على مختلف أطيافهم و طبقاتهم. عكف رحمة الله على دراسة المحلى لابن حزم، و قام على ترتيبه و تهذيبه حتى أخرجه فى كتاب (تيسير المحلى لابن حزم) ولم يكتف بذلك بل قام بتفسير شرح الإمام النووي لصحيح مسلم و كذلك مختصر الترغيب و الترهيب.
تعرف فضيلة الشيخ على الإمام الشهيد حسن البنا أثناء دراسته بكلية أصول الدين بالقاهرة، وأحب الشيخ الإمام وبادله الإمام حبا بحب، وواظب الشيخ على حضور درس الثلاثاء الذي يلقيه الإمام الشهيد.
قبض علية الطغاة بعد صلاة العصر بعد أن ألقى موعظة بمسجد مديرية الزراعة بشبين الكوم فى يوم الثلاثاء من صيف عام 1965م بتهمة مساعدة اسر المعتقلين، وإعادة نشاط الدعوة فى المنوفية. وعذب الشيخ عذبا شديدا، وعلقه الجلادون ثلاثة أيام فى السجن الحربي وهو يقول تحت السياط : (لا يستطيع احد أن يمنعني من الإنفاق فى سبيل الله)، فيشتد علية العذاب ويقدم للمحاكمة فيقول للقاضي: كيف لا انفق فى سبيل الله ورسول الله ﷺ يقول : «ليس منا من بات شبعانا وجارة جائع». وظل ثاباً فى محنته، حتى أفرج عنه بعد ست سنوات عام 1971م.
وعندما ناهز الشيخ الثلاثة وثمانون عاما، داهمه المرض فلزم الفراش، إلى أن وافته المنية يوم يوم الأربعاء 31 من يوليو 1996م.
(1) صحيح مسلم: 2/703. رقم: (65[1015]).
(2) صحيح البخاري: 4/34. رقم: 2887.
(3) صحيح البخاري: 8/105. رقم: 6502.
(4)عزاه الهندي في كنز العمال 1/ 217، الكتاب الأول في الإِيمان والإسلام، باب الاعتصام بالكتاب والسنة، للحكيم الترمذي وأبي نصر السجزي في الإبانة، وقال -السجزي-: (حسن غريب). والبغوي في شرح السنة 1/ 212 – 213، كتاب الإيمان، باب رد البدع والأهواء، الحديث (104). وأورده النووي في “الأربعين النووية” الحديث (41)، وقال: (حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح).
(5) صحيح البخاري: 1/12/. رقم: 15. ومسلم: 1/67. رقم: (70[44]). عن أنس رضي الله عنه.
(6)صحيح البخاري: 1/12. رقم: 16. ومسلم : 1/66. رقم: (67[43])67 – (43) عن أنس رضي الله عنه.
(7) صحيح مسلم 2/697. (53[1006]).
(8) صحيح البخاري: 5/178. رقم: 4409.
(9) صحيح مسلم: 1/62. رقم: (56[34]). عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ – رضي الله عنه.