الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَأبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَأنُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الجمعة: 2 المربي، هو عماد العملية التربوية، وحجر الزاوية في بناء الدعوة، كما وصفه الإمام حسن البنا، حين قال: «الأسرة هي قاعدة الأسس في بناء دعوتنا، ومسؤولها هو حجز الزاوية في هذا البناء».
واللافت للنظر في هذا الكلام البليغ للإمام البنا – رحمه الله -، أن حجز الزاوية في البناء هو إمام الأحجار، يحرص البنّاء (رجل البناء) أن يجعله مستقيمًا موزونًا ومستقرًا، ثم يشد عليه الخيط، ومن بعده يصف ويرص بقية لبنات الصف في جدار المبنى، لأن في استقامته واتزانه استقامة واتزان ما بعده من اللَّبِنَات. ولا قدر الله أي انحراف أوخلل في وضعه يؤثر مباشرةً على ما بعده من اللَّبِنَات، وقد يؤدى إلى خلل في معظم البناء.
ونظرأ لأهمية حجز الزاوية في البناء يُطلق عليه عُمال البناء في بعض محافظات مصر (بالحجر الإمام)، على اعتبار أنه يسبق بقية أحجار الصف في وضعه وفي حالته، وهو الأمر الذي ينسحب على المربي بين إخوانه ومريديه، فهو إمام لهم.
ورحم الله من قال في حق القادة والرواد والمربين: «إذا كنت إمامي فكن أمامي»، بمعني: طالما ارتضريت أن تكون إمامًا لغيرك فلابد أن تكون أمامهم دائمًا، في عبادتك وأخلاقك وبذلك وعطائك، وأحوالك كلها.
من هنا يتضح دور المربي في العملية التربوية، بل دوره وأثره في بناء الدعوة عموماً، حيث تنعقد عليه كثير من الآمال في بناء الأجيال وتربية الرجال، وبقدر فهمه واستيعابه لدوره، وإداركه لعِظم ما يقوم به من مهام، والنتائج المترتبة على ذلك، يكون فعله وأثره وحركته إن شاء الله، بعد توفيق الله له.
ومن وظائف ومهام المربي على طريق الدعوة:
1- أن يتمثل القدوة أمام إخوانه، في عبادته وأخلاقه وسلوكه، في قوله وعمله. وأفضل صور القدوة، هي القدوة العملية «فحال رجل في ألف رجل أبلغ فعلاً وأنفع أثراً من قول رجل في ألف رجل»، ورجل القول غير رجل العمل.
2- أن يربط إخوانه بالمنهج والمبدأ، وأن يحرص على علاقة إخوانه بأصول ومبادئ هذه الدعوة، ولا سيما معينها الصافي (القرآن والسنة) وسير الصالحين والدعاة المجاهدين.
فمن المهام الأساسية للمربي، أن يربط إخوانه بكتاب الله (تلاوة – تدبرًا – فهمًا – تطبيقًا)، ويربطهم بسيرة نبيهم الكريم ﷺ وسنته العملية والقولية، وسير الصالحين والدعاة السابقين الذين ثبتوا وضحوا وجاهدوا على هذا الطريق. وهنا تتجسد معاني الربانية في المدعو حينما يرتبط عقله وقلبه وسلوكه بكتاب الله وسنة نبيه الأمين ﷺ وسير الصالحين والعُبَّاد العاملين والدعاة والمجاهدين.
3- أن يُطوع إخوانه للفكرة والمنهج والمبدأ وليس لنفسه أو غيره من الناس، الدعوة تبقى ويفنى الدعاة، والمبادئ تبقى ويزول الأشخاص، وبالتالي يدور الأفراد مع الحق حيث دار. والمربي يجب أن يوطِّن نفسه وإخوانه على تحرِّي الحق دائمًا ومتابعته وربط المصير به، فيكونوا معه حيث يكون، ويدوروا معه حيث يدور، وفي الوقت نفسه يجب التحرز من الارتباط بالأشخاص.
4- تعميق مبادئ الشريعة في نفوس إخوانه وتعويدهم على عرض كل شيء على الشرع وعلى الحق، فيكون هو المقياس الذي يرجعون إليه، وبالتالى يتربى إخوانه على قياس ووزن أمورهم جميعاً (الدعوية والحياتية) بمقياس وميزان الشرع الحكيم، والنتيجة لن يضلوا أبدا. «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتى».
5- تعميق معاني الأخوة والحب في الله بين إخوانه، لأن الأخوة سر القوة كما قال الإمام البنا: «رابطتكم سر قوتكم»، وهي أساس قوة الجماعة، وتماسك لبناتها وترابط أعضائها، كما أنها سبيل لرضوان الله ونيل الأجر،وهي سبب في أن نستظل بظله يوم لا ظل إلا ظله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي». رواه مسلم
6- التعرف الدقيق والعميق على إخوانه، من خلال المخالطة والمعايشة الحقيقية لهم ولظروفهم وواقعهم، ففي ذلك فرصة كبيرة لحُسن تربيتهم ورعايتهم، لأن المعايشة أساس التربية، فضلًا عن أن المعايشة تسمح له بالتعرف على مشكلاتهم عن قرب وبشكل صحيح، وهو ما ييسر له معاونتهم في حل مشكلاتهم وتجاوزعقباتهم. والمعايشة التربوية تساعد المربي كثيراً في اكتشاف ما عندهم من المواهب والطاقات، وبالتالى السعي في توظيفها وتنميتها.
ويُعين على ذلك تفعيل أركان الأسرة، (التعارف – التفاهم – التكافل)، وهي من الأمور الحيوية في التربية الدعوية، ومن المهام الأولية للمربي.
7- الحرص على إخوانه، ورعايتهم، والسهر على حل مشاكلهم ولا سيما وهي صغيرة، فلا يغفل عن مشكلاتهم حتى تكبر وتتفاقم ويصعب حلها، ولكن يتعامل معها سريعًا، ويتعهدها مبكرًا، وهذا من حق إخوانه عليه، فضلًا عن حرصه على جعل إخوانه يتعاونون فيما بينهم في التغلب على صعابهم ومواجهة مشكلاتهم، ففي ذلك تقريب وتأليف بينهم إن تعاونوا، ولا مانع من الجهود الفردية أحيانًا في حل بعض المشكلات الفردية لدى أحد إخوانه.
وبالتالى كان المربي المتميز هو ما يجمع بين أسلوبي التربية (الفردية – الجماعية)، سواء في التربية عمومًا أو في حل المشكلات خصوصًا. بمعنى أن تكون له نظرة جماعية في تربية إخوانه معاً على مفاهيم وقضايا ومهارات مشتركة، وفي نفس الوقت وهو يمارس التربية الجماعية، يجب أن تكون له نظرة فردية لكل واحد منهم على حدة، وهذه هي (التربية الفردية)، فالأفراد متفاوتون في قدراتهم وتفاعلهم وحتى مشاكلهم وظروفهم، من هنا كان (مبدأ الفروق الفردية في العملية التربوية).
8- أن يغرس في نفوس إخوانه الثقة في المنهج، والثقة في الطريق، والثقة في القيادة، والثقة في وعد الله الحق، مع تربية إخوانه على النصح وإبداء الرأي لما فيه صالح الدعوة ودرء المفاسد عنها، بشرط أن تكون النصيحة وفق ضوابطها الشرعية المعروفة، وعبر قنواتها وآلياتها المتبعة، لأن النصيحة مطلوبة من الجميع وللجميع. عن تميم بن أوس الداري أن النبي ﷺ قال: «الدين النصيحة ثلاثاً، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». رواه مسلم.
9- تشجيع روح المناقشة والحوار بين إخوانه، من منطلق أنهم أصحاب دعوة وليسوا أُجراء فيها، وتربية إخوانه على التفكير لدعوتهم، وعرض المقترحات والأفكار التي تسمو وتنهض بها، وأن يغرس فيهم مبدأ ملكية هذه الدعوة، بمعنى أنها دعوتنا جميعاً، يجب أن نخاف عليها جميعاً، ونفكر ونقترح لها جميعاً، وننميها جميعاً، ونحمل همّها جميعاّ، فمن ملك شيئاً حرص عليه وعلى النهوض به وتنميته. كل ذلك في إطار من الأخوة والثقة والتأدب بآداب العمل الجماعي وآلياته.
10- الحرص على تفعيل المنهج التربوي، وتحقيق أهدافه الشاملة في إخوانه، بمجالاتها (المعرفية والوجدانية والسلوكية)، وأن يوظف هذا المنهج لرعاية المتميزين منهم، ودفعهم وتعزيز تميزهم، وأيضا توظيف المنهج لحل مشكلات المتعثرين منهم، وعونهم في تجاوز عثراتهم برفق ولين. من هنا تظهر أهمية قاعدة (التربية بالأهداف والنتائج)، حيث نري أثر المنهج شاملاً في تربية الأفراد، ولا يتوقف الأمر عند كتب تُدرّس أو نصوص تُحفظ.
11- المربي هو همزة الوصل الصادقة بين القيادة وبين إخوانه (في الاتجاهين النازل والصاعد) وبنفس الروح، بمعنى أن المربي القدوة يجب عليه أن يكون معدناَ جيد التوصيل لحرارة ونبض الدعوة من وإلى إخوانه، فكل ما تطلبه القيادة أن ينزل للأفراد ينزل، وبكل دقة ووضوح وبحرارة، وكل ما يطلبه إخوانه منه أن يُرفع للقيادة من توضيحات أو مقترحات أو غيرها، وجب عليه أن يرفعها كما هي أيضا، ويجد الأفراد الرد الوافي على تساؤلاتهم، ومصير مقترحاتهم، بحب وثقة وأخوة متبادلة.
12- أن يتفقد إخوانه فردًا فردًا، وأن يسعى بمصالحهم ويتأمل كل شأن من شئونهم بلا تبرم، وبكل حب وسرور. وليضع نُصب عينيه دائماً توجيه الإمام البنا: «وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعاً». رسالة التعاليم.
هذه بعض مهام ووظائف المربي على طريق دعوتنا المبارك، وللموضوع بقية نستكملها في مقال آخر إن شاء الله، أسال الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يرزقنا جميعًا الإخلاص في القول والعمل وفي السر والعلن. وصل الله وسلم على رسولنا وقدوتنا محمد بن عبد الله ﷺ، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. والحمد لله رب العالمين.