نستكمل سلسلة (نظرات في تراث الإمام حسن البنا) بتوجيه شامل ذيَّلَ به الإمام الشهيد رسالته القيّمة: (بين الأمس واليوم)، موجهاً نداءه للإخوان المسلمين تحت عنوان: (واجبات)، قائلاً:
«أيها الإخوان:
– آمنوا بالله واعتزوا بمعرفته والاعتماد عليه والاستناد إليه، فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه، وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه.
– وتخلقوا بالفضائل وتمسكوا بالكمالات، وكونوا أقوياء بأخلاقكم أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين وكرامة الاتقياء الصالحين.
– وأقبلوا على القرآن تتدارسونه، وعلى السيرة المطهرة تتذاكرونها، وكونوا عمليين لا جدليين؛ فإذا هدى الله قومًا ألهمهم العمل؛ وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.
– وتحابوا فيما بينكم، واحرصوا كل الحرص على رابطتكم فهي سر قوتكم وعماد نجاحكم، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين.
– واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره، فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم.
– وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده. والفرصة آتية لا ريب فيها، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: 4-5).»(1)
وقفات تربوية ودعوية مع هذا التوجيه:
أولا:العبادة طريق القيادة
يؤكد الامام البنا على أن (العبادة هي طريق القيادة)، بمعني أننا بشكل عام وفي هذه المرحلة بشكل خاص نحتاج إلى مزيد من القرب إلى الله، والاستعانه به سبحانه، والتذلل إليه فهو المستعان وعليه التكلان، نستمد منه سبحانه زاد المسير إليه، نقبل عليه بقلوبنا وجوارحنا. وعندئذ وعلى طريق العبادة نقوى على القيادة، مستمدين القوة من خالقنا سبحانه، القيادة الربانية التي نتمثل فيها القدوة، ونتعبد بها إلى خالقنا سبحانه وتعالى. (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَأمُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [سورة الحج: 41]. وقد أكد الامام البنا على هذا المعني حين قال في موضع آخر: «أيها الاخوان: كونوا عباداً قبل أن تكونوا قواداً، تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة».
وبالعبادة الحقة لا نخشى إلا الله لأنه القوي المتين، الذي لايقع في ملكه إلا مايريد. واستمراراً لمعني العبادة والربانية الحقة يؤكد الامام البنا على الصلة الدائمة بكتاب الله تبارك وتعالي (تلاوةً – تدبراً – فهماً – تطبيقاً)، بحيث لاتنقطع صلة الأخ المسلم بهذا الكتاب العظيم نتزود من معانيه، ونغذي أرواحنا بما فيه، وننفذ أوامره ونقف عند نواهيه.
ومن مقتضيات العبادة والربانية في هذه المرحلة:
1- الانكسار والذلة بين يدي الله، واستشعار أمانة المسئولية، وأنها تكليف لاتشريف، وأنها اختبارلا انتصار.
2- ضرورة تفعيل البرامج التربوية (الجماعية – الفردية – الذاتية) والتفاعل معها والتزود منها فهي قاعدة الانطلاق الصحيح، وزاد الحركة والدعوة بين الناس (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا. إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا.) المزمل 7:1
3- الحرص الدائم على عبادة الدعاء بخشوع وخضوع، مع تخير أوقات الإجابة ولاسيما وقت السحر، حين تنتصب الأقدام وترتفع الأيدي وتلهج الألسنة لربها، تطلب منه التأييد والحفظ والعون للدعوة والدعاة.
4- الثقة واليقين في نصر وتأييد الله لهذه الدعوة، وحفظها من كيد الكائدين.
5- اليقين بوعد الله الذي فيه حفظ لأوليائه والدفاع عنهم (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)) الحج
6- الإيمان الكامل بأن الحق قادم وأن الباطل زاهق، وأن الحق يحمل قوته فيه وأن الباطل يحمل ضعفه فيه، وأن ارتفاع صوت الباطل وترعرع شجرته لايعني قوته ودوامه، لأن الحق بقوته سيجتث جذورها «سُئل الحق يوماً: أين كنت حين علا صوت الباطل وترعرعت شجرته؟؟، قال الحق: كنت في باطن الأرض أجتث جذورها!!».(وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81]
7- اليقين بأن حملات التشويه والتضليل الإعلامي، والتشكيك في الدعوة والدعاة، لن تنال منهم إلا ما كتب ربنا وقدر، وأن التاريخ يؤكد أن حملات الكيد للدعوة والدعاة – مع ثبات أهل الحق ودوام صلتهم بربهم، وتمسكهم بمنهجهم – لن تحقق مآربها، وستعود هذه الحملات المغرضة على أصحابها بالحسرة والندامة والخسران. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36] وفي قصة إسلام الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي أصدق دليل.
ثانيا:الصلاح طريق الإصلاح
وهي من الدروس المستفادة من توجيه الامام البنا لإخوانه. إننا نحتاج دائما ونحن على طريق الدعوة أن نتزود بالأخلاق الكريمة الفاضلة، فهي أولا طريقنا لرضا الله، لأننا نتقرب إلى الله بهذه الأخلاق، وثانيا هي سبيلنا لصحبة النبي محمد ﷺ في الجنة ومجالسته يوم القيامة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «إن من أحبكم إلى، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون ..». وأخيرا مكارم الأخلاق هي طريق القبول بين الناس والتأثير فيهم، ونشر الفضائل ومحاربة الرذائل، بها تجتمع القلوب حول دعوتنا ومنهجنا، وبها ترق قلوب من قسى علينا وأعلن بغضنا وحارب فكرتنا. إنه سلاح الأخلاق الذي يغزو القلوب ويحشد الأنصار ويجمع الأعوان. (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَأوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: ١٥٩).
ورحم الله الامام البنا حين أكد في توجيهه الطيب: «كونوا أقوياء بأخلاقكم». ولكي ننشر ونعمق هذه الأخلاق في مجتمعنا وننال المصداقية بين قومنا، لا بدَّ أن نتحلي بها أولا، ويري الناس في تعاملنا معهم أثر تمكن هذه الأخلاق فينا، لأننا لن ننجح مع الناس إلا إذا نجحنا مع أنفسنا وذواتنا. والحقيقة الدامغة تؤكد أنه «من كان قادراً على نفسه؛ كان على غيرها أقدر».
ثالثا:أخوتكم أساس قوتكم
نعم الأخوة وقوة الرابطة القلبية من دعائم قوة هذه الجماعة المباركة، ولنا في رسول الله الأسوة يوم أن آخى بين المهاجرين والأنصار ليضع دعامة البناء الاجتماعي للجماعة المسلمة الأولي. وتتجلي دعامة الأخوة والوحدة والترابط في قوله تعالي (وَلا تَفَرَّقُوا وَإذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103] بعد أن أقر سبحانه دعامة الايمان وقوة العقيدة في قوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا).
ولأهمية الأخوة في بناء الدعوة جعلها الامام البنا ركنا من أركانها فقال: وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة: قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب: سلامة الصدر، وأعلاه: مرتبة الإيثار، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9.
والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، «وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، «والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا». (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71)، وهكذا يجب أن نكون.
ومن مقتضيات الأخوة في هذه المرحلة:
1- التأكيد على ضرورة الأخوة العملية، التي تترجم الكلام والنظريات إلى أفعال وعمليات، كما يقول الامام البنا. وهذا يتحقق أولا بالمعايشة والمخالطة وتفقد الأحوال، ثم ببذل الجهد في خدمة إخواننا والسعي في قضاء حاجاتهم، ومشاركتهم الأفراح والأتراح، والتهلل والفرح لكل خير يصيبهم، والحزن والألم لكل مكروه ألم بأحدهم. والسؤال عنهم والبشر لرؤياهم ومجالستهم. بهذا تكون الأخوة روح تسري فينا كما سرت في أسلافنا العظام ولنا فى قصص المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أصدق الدروس (مثال: موقف عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع).
2- إن درجات الأخوة تتصاعد، حيث تبدأ بسلامة الصدر وتنتهي بالإيثار، وبالتالي كان الخط الأحمر الذي لا يُسمح بتجاوزه بيننا هو سلامة الصدر، فمن وجد في نفسه شيئا نحو أخيه لاينام حتى يزيله، ويعالج نفسه وينقيها، ويصارح أخيه بما عنده لينتهي الأمر وتصفو النفس. لأن الله سبحانه يحب المرء على قدر حبه لأخيه لابقدر حب أخيه له، وإن كانت الثانية دليل على الأولي.
3- ألا تشغلنا الأعمال والحركة بين الناس عن روح دعوتنا وسر قوتنا وأساس عزتنا وهي (الأخوة)، فلنحرص على تقويتها دائماً، ولا سيما ببرامج المعايشة والتقارب، وجلسات التآخي والتحاب والنصح والتوادّ، فبها يرتفع منسوب الأخوة والحب في الله في قلوبنا.
4- الدعاء لإخواننا بظهر الغيب، ولا سيما إذا دعوت لأخيك بقضاء حاجة يحتاجها، أو دعوت له في أي شأن من شئونه يحب فيه الدعاء. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ». أخرجه مسلم.
هل جربت يوماً أن تدعو لأخيك وأنت في سجودك أو قيامك أو تهجدك؟ جرب وسترى فضل الله عليك وعلى أخيك.
5- بقدر حرصنا على حقوق الأخوة وجب علينا الحرص على قيمها وضوابطها، ومنها الامتناع عن الغيبة والنميمة والتناجي وسوء الظن، ومنه أيضا الالتزام بآداب النصيحة لإخواننا، ولنتذكر وصية فضيلة الأستاذ مصطفي مشهور – رحمه الله – حين كان يقول لإخوانه: «قدم النصيحة على أكمل وجه وتقبَّلها على أيّ وجه».
ومن قيم وضوابط الأخوة أيضا التي نحتاج إليها الالتزام بأدب الخلاف الراقي كما يقول الأستاذ البنا رحمه الله: «ولا بأس من تمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان في ظل الحب في الله من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب»، فقد أثبتت تجارب من ساروا على طريق الدعوة، أنه عندما ينقص الحب في الله أو تتوارى حقوق الأخوة عن الصورة نرى ظهور المراء المذموم، بل والتعصب للرأي وفساد ذات البين، وأحيانا القيل والقال فيما لايرضي الله. ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ (الإسراء: من الآية 53).
6-إن الأخوة الإسلامية من معالم ديننا، فلنحرص عليها، ولانسمح لأحد أن يعكر صفوها ويشق صفها، ولنتعاون مع غيرها فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. وبعد ذلك نحن مطالبون بتحقيق الأخوة الانسانية وفي مقدمتهم أبناء الوطن من غير المسلمين فلهم حقوق في أعناقنا نحن الإخوان. إنها دعوة الإسلام العظيم التي تنشر خيرها في كل أرض ويستظل بظلها كل بنى البشر، بل وغير بنى البشر من نبات وحيوان وجماد، (ألم تدخل امرأة النار في هرة؟)(ألم يدخل رجل الجنة في كلب سقاه؟)، بل وأبعد من ذلك يأمرنا الرحمة المهداة ﷺ برعاية حقوق الجماد (أن نعطي الطريق حقه).
رابعا:الثقة في قيادتكم من ركائز دعوتكم
تعد الثقة من ركائز الدعوة وأحد مصادر قوة البناء النفسي والتنظيمي للصف المسلم، وهي من ثمار الأخوة الصادقة والحب في الله. وبقدر الثقة المتبادلة بين الأفراد تكون قوة الصف، وبقدر ثقة الصف في قيادته تكون قوة الجماعة. وما أحوجنا بعامة وفي هذه الأيام بخاصة إلى أن نعرض أنفسنا على هذا الركن وما فيه من إشارات ومعاني.
فقد كثرت الحملات المسعورة والسهام المسمومة من هنا وهناك تنهال على الجماعة (قيادة – منهح – صف) يلصقون بها التهم والافتراءات والأكاذيب والشبهات، ويحاولون هز ثقة الصف بقيادته، فيثيرون الشكوك والأكاذيب، ويلفقون التهم والافتراءات، ويتكلمون عن الانشقاقات والصراعات، كل هذا بهدف النيل من وحدة وترابط هذه الجماعة.
ولأهمية الثقة وضرورة توافرها ودوامها جعلها الإمام الشهيد ركنًا من أركان البيعة العشرة، ليحافظ كل أخ عليها، وفاءً لبيعته وعهده مع الله، ولا يُعرضها للاهتزاز أو الفقدان فإن ذلك لا يقل خطورة عن النكث في ركن الجهاد أو الطاعة أو التجرد أو غيرها. فيذكر الإمام الشهيد عليه رحمة الله: «وأريد بالثقة: اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة،(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]».
من متطلبات الثقة
1- ضرورة المحافظة على الثقة من أي شيء ينال منها، وعلى الأخ المسئول أن يديم الصلة بإخوانه ليبين لهم الأمور أو المواقف ويوضح لهم ما أشكل عليهم منها، وخاصة ما يثيره المشككون ليكون الصف في حصانة.
2-على الأفراد ألا يتأثروا بما يُثيره المشككون، وألا يُستدرجوا في مهاترات معهم، وإذا حاك في صدر أحد الإخوان شيئاً، فعليه أن يسارع بالتبين، وألا ينقل ما سمعه وسط الصفوف فيحقق بذلك غرض المشككين، وما أجمل الالتزام بما أرشدنا ربنا إليه في هذا المجال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
3- ثم إننا إذا فندنا اتهاماً مما يثيره المشككون وأوضحنا بطلانه، لا نتصور أن الأمر سينتهي عند ذلك الحد، ولكن ما أسهل عليهم أن يختلقوا اتهامات أخرى باطلة لا أصل لها، ليشغلونا بها عن أصل ما ندعو إليه، ونسهم بذلك فى تحقيق أهدافهم، ولكن خير رد عليهم ألا نرد، ونستمر في العمل وبذل الجهد.
4- الثقة في المنهج والطريق، فلقد كثر اللغط حول منهج الإخوان وطريقتهم في التغيير، خاصة بعد أن إنقلب الظالمون على الشرعية، ووقفوا أمام المصلحين من تنفيذ تجربتهم في الإصلاح. نعم يجتهد الإخوان في تطبيقات المنهج، وقد نصيب ونُخطئ لكن أن نحيد عن منهجنا ومبادئ دعوتنا فهذا أمر يتنافى مع الثقة، لأن دعوتنا ربانية ومنهجنا إسلامى في مبعثه ومقصده، فلا نشك لحظة في أن في الإسلام خير العالمين وصلاح الدنيا والآخرة.
5- أن مراحل الفتن والتمحيص في عمر الدعوات بحاجة لمزيد من الثقة، لأن الخصوم والأعداء يستثمرون هذه الفترات العصيبة في شق الصفوف وإثارة الخلافات.
خامسا: النصر مع الصبر
إنها البشرى للصابرين العاملين المحتسبين، أن النصر الذي يترقبوه ينتظرهم، وهذا وعد الله لهم، لأن الله مع الصابرين، فلا نجزع ولانتعجل. ورحم الله الإمام البنا حين قال: «ومن صبر معي حتى تنمو البذرة، وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة، ويحين وقت القطاف، فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجرالمحسنين، إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة».(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: 4-5).
اللهم ارزقنا الصدق في القول، والإخلاص في العمل، وكلمة الحق في الرضا والغضب، ولاتحرمنا من الجهاد في سبيك، والعمل لدعوتك، اللهم ثبتنا حتى نلقاك وأنت راض عنا، إخوانا متحابين، لا ضالين ولا مضلين، غير خزايا ولا نادمين، آمين آمين، يارب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
——————————
(1) المصدر: رسالة بين الأمس واليوم، للإمام الشهيد حسن البنا، وقد سُميت هذه الرسالة بعدة أسماء منها: (رسالة النبي الأمين)، و (بين الأمس واليوم)، و (من تطورات الفكرة الإسلامية وأهدافها). وقد كتبها الإمام البنا فى ظرف عصيب مرت به الدعوة، حيث أصدر النحاس باشا فى بداية عام 1943م أمراُ بغلق جميع شُعب الإخوان باستثناء المركز العام بالقاهرة مع بقائه تحت المراقبة الأمنية الصارمة. وكانت هذه الرسالة وكأنها رسالة مودع، وقد صدرت هذه الرسالة فى كتاب عن المركز العام فى 1943م.
0 Comments to “نظرات في تُراث الإمام حسن البنا (7)”
Dr.Wageeh Kamal
بوركت أخي الحبيب ولا حرمنا قلمك ونفحاتك
zadussaerin
حفظكم الله يا دكتور وجيه ، وأكرمكم ، وجمعنا بكم على خير عاجلا غير آجل .