أبعاد الصراع بين الحق والباطل(1) بقلم: الدكتور محمد عبد الرحمن المرسي
اهتم الإمام الشهيد حسن البنا بالفهم الصحيح للدعوة، وجعله أول أركان البيعة، وسماه (الفهم الدقيق) وجعله جزءًا أساسيًا من عملية (التكوين العميق) التي تعد الفرد لحمل الدعوة واجتياز العقبات وتحمل المشاق. ودور النقيب دائمًا هو مراجعة هذا الفهم عند الأفراد وتصحيحه بالحوار والمناقشة الهادئة وبناء وترسيخ القناعات. وبالتالي بناء الموازين والقواعد التي ينطلق منها تكوين الفهم والرؤية عند الأفراد، ولا بدّ له فيها من دوام مطالعة كتاب الله، ومعايشة قصص الأنبياء، وسيرة رسول الله ﷺ. ومن هذه الموضوعات المهمة قضية الصراع بين الحق والباطل، وما يحتويه من مفاهيم وأسس تنعكس على واقعنا وحركتنا.
أولًا: لا بدَّ من استحضار هذه المعانى: 1- إن الدعوة للإسلام وتطبيق منهج الله، سوف تواجهها دومًا عقبات وصدود ورفض من قوى الباطل وممن يملكون مشاريع ودعوات خارج المنهج الإسلامي. قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَأمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40]. (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ). [البقرة: 251] 2- القرآن الكريم وضَّح في تصويره الصراع بين الحق والباطل، أنه صراع حتمى وأن نتيجته بيد الله عز وجل. 3- وظيفة الفئة المؤمنة هو الثبات وبذل الجهد واجتياز اختبار التمحيص. 4- أنه بالمنطق العصرى هو معادلة صفرية. 5- ولا يملك أحد من المسلمين أن يتجرأ على قدر الله ﷻ – والذى قدره في كتابه الكريم – أو يتنازل عنه في جهاده.
ثانيًا: الدعوة الإسلامية بصبغتها ووجهتها وأهدافها لا تقبل أن تتقابل مع دعوات الباطل – مهما انتفش – في منتصف الطريق، أو تركن إليهم أو تخرج نموذجًا مشتركًا من الأثنين وترضخ للباطل وتعطى له أي قدر من الصلاحية والبقاء كمصدر للتوجيه وفق قيمه ومبادئه أو الإقرار بالمرجعية له في ذلك.
وقد حاول جنيكز خان ذلك بإخراج (اليساق) وهو عبارة عن خليط من الوثنية والإسلام والمسيحية. ونحن هنا لا نتكلم عن الوسائل ومواد الحياة، فهذا متاح للجميع نأخذ منه ونترك، ولا يعنى هذا أن الدعوة والحق الذي تحمله هو منهج إقصائى بالنسبة للآخرين إنما نتكلم عن الدعوات والتصورات والمشاريع المخالفة للإسلام كالمشروع العلمانى مثلًا … إلخ.
وهذا بخلاف التعاون في المشترك في أمور الحياة العملية وفي الكفاح السياسى والتي تبيحها قواعد الإسلام أو التدرج في مجال الحركة واستيعاب الواقع ومواجهته بآليات مكافئة له. أما بالنسبة للأفراد والجماعات والهيئات، فإن الدعوة بما تتيحه من حرية في المجتمع الذي تحكمه تستوعب الجميع (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن منهج الحق عاشوا في ظل دولة الإسلام ونعموا بالأمن وبمنهج الحرية الذي استوعب الجميع وبالمشاركة في العمل داخل المجتمع.
وهناك فرق بين أن تستوعب المشروع العلماني وأصحابه في المجتمع، وأن يكون هناك الحوار والنقاش بالتى هي أحسن هو مسار التفاهم، بل والتعاون في أمور لصالح الوطن، وبين أن أقدم رؤية في المبادىء والقيم فيها الشراكة بين المشروعين: المشروع العلمانى والمشروع الإسلامي. إرادة الأمة هي التي تحدد انحيازها لأى دعوة ولأى مشروع، وتتشكل هذه الإرادة في الأمة بفعل الدعاة وقد ثبت عمليًا وتاريخيًا أن المشروع العلمانى هو الذي يرفض وجود أفراد تحمل المشروع الإسلامي، ويحرص على إقصائهم من مراكز التأثير.
ثالثًا: صياغة العقل المسلم وارتباطه بأصول الدعوة الإسلامية هو أمر مستهدف، وهم يعملون على إحداث الخلل والارتباك بل والسيطرة وإعادة الصياغة ليكون ذلك وفق قواعد وضوابط يربطونه بها.
من الأهمية بمكان تعديل وتصويب العقل المسلم وردّه إلى أصول منهجه الإسلامي: فالمنهج الإسلامي له موازينه ومقاييسه الخاصة به، وبالتالي رؤيته الواضحة المنبثقة عن تلك القيم والموازين والأهداف. ويجب أن يحذر المسلم عند التفكير والانطلاق بالرؤية من جرّه وصبّه في قوالب خارج تلك المفاهيم الربانية وبالتالي تضطرب عنده البوصلة. إن صياغة العقل المسلم تنبع من قواعد دعوته التي وضحها القرآن الكريم وسنة رسول الله ﷺ. وبالتالي طرح آليات وقواعد للتفكير خارج هذه القواعد وجرنا إليه هو أمر مرفوض، قد نستخدم بعض الأساليب في إجراءات جزئية أو تعامل فرعى، لكن تحت إشراف وهيمنة تلك القواعد الإسلامية. رابعًا: وهذه أمثلة لما يراد من إعادة صياغة العقلية المسلمة: أ – أنتم ستتعاونون مع أحد وتتوافقون معه على عمل أو موقف، ولكل منكم كيانه المنفصل، فلابد كقاعدة أن تتنازل عن قدر معين ويتنازل هو كذلك. فما هو المقدار الذي على الدعوة الاستعداد للتنازل عنه في مبادئها وشعاراتها وأهدافها في سبيل الالتقاء مع الآخرين. وبالتالي يصبح التفكير يدور حول ذلك وهل هذا القدر كافى أم لا. لكن هناك قاعدة التعاون في الإسلام ” نتعاون فيما اتفقنا عليه بدلًا من هذا التفكير – أي في المساحة المشتركة – ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه “ وإذا كان هناك تعديل فإنه يكون في الوسائل وفي النشاط والجهد وليس في الأهداف والمبادئ والشعارات.
ب – تدخل الدعوة مجال التعاون والعمل السياسي مع الآخرين، فيعتبرونها بمشروعها الإسلامي هيئة واحدة، وفي المقابل اعتبار أصحاب المشروع العلمانى هيئات متعددة حتى لو مثلها أفراد على أصابع اليد، وبالتالي لا بدَّ أن يخضع القرار للتصويت ثم الأغلبية التي أصبحت دائمًا معهم. فكلهم بالنسبة للمشروع الإسلامي مهما تعددت أسماؤهم هيئة واحدة، وبالتالي التعاون يكون بالتوافق وليس بهذا المنطق وذلك الترتيب.
جـ – يقولون لك استحالة المعادلة الصفرية في مسار المشروع الإسلامي مع المشاريع الأخرى، والواقع يشهد بقوة وغلبة المشروع العلمانى، وبالتالي يقولون باستحالة تحقيق المشروع الإسلامي كله. فلابد أن تعدل من أهدافك ومبادئك وأن تعلن ذلك بوضوح. في المشروع الإسلامى الرؤية والتصور والأهداف العامة من الثوابت والقواعد، وهذا يختلف عن الأهداف الفرعية والوسائل الإجرائية، وبالتالي هناك فرق بين المرحلية وبين تجزئة التصور في المشروع الإسلامي.
د – يقولون: إن الأهداف والمبادئ لا بدَّ من مراجعتها كل فترة، لأن الثبات عليها هو جمود.ولا توجد ثوابت أو حقيقة كاملة في هذا العصر، وكل شيء قابل للنقض، فأين اجتهاداتكم؟ وكل هذا مناقض لمبادىء وعقيدة الإنسان المسلم فالمراجعة تكون في المتغيرات فقط، وفي الجهد البشرى الذي يصيب ويخطىء.
هـ – كثيرًا ما نسمع منهم هل أنتم يمين أم يسار أم وسط، وبالتالي يبعد الإنسان عن القياس الصحيح فنحن نقيس أنفسنا بمدى التزامنا بالإسلام ومبادئه، وليس هناك أنواع في الإسلام. و- يقولون: إن منهجكم الذي يقوم على المعادلة الصفرية لا يناسب هذا العصر؟ ونسوا أن الصراع بين الحق والباطل هو معادلة صفرية حقًا، ولا يمكن للدعوة أن تتنازل عن ذلك، و(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) و(وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ). وهذا في الأفكار والقيم والمبادئ أما في تسيير أمور الحياة فالإسلام يحتوى الآخرين ويجعلهم يشاركون في الحياة لكن تحت راية مبادئه. ز- يخترعون مفاهيم ومقاييس مخالفة لقواعد الديمقراطية، فإذا بهم يسمون وجود أغلبية ومعارضة أنه انقسام للشعب. فإذا كان الإخوان قد حازوا الأغلبية، قالوا لهم إن الشعب منقسم. وإذا كان الإخوان هم المعارضة وحازوا هم الأغلبية، قالوا للإخوان أنتم متمردون على الشعب وقد رفضكم. أيضًا يدّعون آليات جديدة على مفهوم الديمقراطية، فيقولون للإخوان يجب أن تنتقلوا من المرحلة التنافسية السياسية إلى المرحلة التشاركية ثم إلى المرحلة التوافقية وأن تجعلوا هذا هدفكم وتقدموا ما يؤدى إليه. وهذا التصور ليس من آليات الديمقراطية. إن الديمقراطية تعنى التنافس، وأن هناك معارضة وأغلبية يحددها صندوق الانتخابات وأن هناك آلية لتداول السلطة. فالأصل في الديمقراطية هو التنافس وليس التوافق، ولا بد أن يكون هناك معارضة وأغلبية، وأىّ تصور يلغى وجود المعارضة ويلغى التنافس للوصول للحكم، فإنه يضعف بذلك العملية الديمقراطية. بل يتجاوز بعضهم فيقول إن الصندوق الانتخابى – الحر النزيه – لا يعنى الديمقراطية ولا يمثل إرادة الشعب. ومع ذلك أيضًا فنحن نرحب بأى جهة تتوافق مع برنامجنا، أو حتى جزء منه. إن التنافس الديمقراطى تحكمه قواعد أساسية: 1- هناك دستور يحترمه الجميع. 2- الالتزام بسلمية التنافس. 3- عدم إقصاء المعارضة، وعدم التعدى على حقوقها. 4- احترام صلاحية الأغلبية. 5- احترام الجميع لطبيعة النظام الديمقراطى، وآلية تبادل السلطة. وهذا التنافس السياسى الديمقراطى، يختلف عن الصراع المذموم الذي يستهدف الفوضى وعدم الاستقرار في المجتمع، سواء جاء هذا من المعارضة أم من الأغلبية.
ح – النتيجة لسنا مطالبين كبشر ضعيف وعاجز بتحصيلها، وإنما الثبات في ذلك، ثم يكون هناك قدر الله العامل الربانى هو الذي يحدد هذه النتيجة ويقدرها في الوقت وبالكيفية التي يشاؤها عز وجل.
خامسًا: كل ذلك يستهدف هزّ الثقة في نصر الله، والتدرج في الخطوات – كناحية عملية حركية – هو في اتجاه السعي لإقرار الحق والتمكين للمشروع الإسلامي وليس لجزء منه، والتدرج والمرحلية يكون في اتجاه الهدف وليس بعيدًا أو تشتيتًا عنه، ولا يجب أن تغيب البوصلة مهما طال الزمن.
سادسًا: وأصحاب المشروع العلماني في تعاملهم مع وجود أصحاب المشروع الإسلامي قد يسمحوا لهم كأفراد أو كقوة بسيطة غير مؤثرة على هيمنتهم، فإذا أصبحوا خطرًا يهدد السيطرة أو انحاز لهم الشعب رفضوا ذلك وعملوا على إقصائهم.
سابعًا: لا بدَّ أن نكثر من الرجوع للقرآن وآياته وقصص الأنبياء وسيرة الرسول ﷺ لتترسخ في قلوبنا وعقولنا تلك الموازين، ونزداد توكلًا على الله، وهذا لا ينافى الأخذ بالأسباب، بل هو حاكم وضابط لتلك الأسباب، يقول ابن الجوزى: “أن تكون ببدنك مع الأسباب، وبقلبك مع المسبب”.
———————— انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني والآخير بإذن الله تعالى.