قسم الإمام حسن البنّا الناس من حيث موقفهم من دعوة الإخوان المسلمين إلى أربعة أصناف، وأورد ذلك فى رسالته القيمة (دعوتنا)(*)، تحت عنوان: (أصناف أربعة)، وقال – رحمه الله:
وكل الذى نُريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحداً من أربعة:
مُؤمن إما شخص آمن بدعوتنا وصـدّق بقـــولنا وأُعجب بمبادئنا، ورأى فيهــا خيرًا اطمأنت إليه نفسه، وسكن له فؤاده. فهذا ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا والعمل معنا حتى يكثر به عدد المجاهدين ويعلوا بصوته صوت الداعين. ولا معنى لإيمان لا يتبعه عمل. ولا فائدة في عقيدة لا تدفع صاحبها إلى تحقيقها والتضحية في سبيلها. وكذلك كان السابقون الأولون ممن شرح الله صدورهم لهدايته فاتبعوا أنبيائه وآمنوا برسالاته وجاهدوا فيه حق جهاده، ولهؤلاء من الله أجزل الأجر وأن يكون لهم مثل ثواب من اتبعوهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
مُتـردد وإما شخص لم يستبين وجه الحق، ولم يتعرف في قولنا معنى الإخلاص والفائدة. فهذا: – نتركه لتردده ونوصيه بأن يتصل بنا عن كثب. – ويقرأ عنا من قريب أو بعيد، ويطالع كتاباتنا. – ويزور أنديتنا ويتعرف إلى إخواننا. – فسيطمئن بعد ذلك لنا إن شاء الله. – وكذلك كان شأن المترددين من أتباع الرسل من قبل.
نفـعي وإما شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة وما يجره هذا البذل له من مغنم. فنقول له: – حنانيّك ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت، والجنة إن علم فيك خيراً. – أما نحن فمغمورون جاها فقراء مالا. – شأننا التضحية بما معنا وبذل ما في أيدينا. – ورجاؤنا رضوان الله سبحانه وتعالى وهو نعم المولى ونعم النصير.
فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده فسيعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وسينضم إلى كتيبة الله ليجود بما معه من عرض الحياة الدنيا لينال ثواب الله في العقبى، و (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ). (النحل من الآية 96).
وإن كانت الأخرى فالله غني عمن لا يرى لله الحق الأول في نفسه وماله ودنياه وآخرته وموته. وكذلك كان شأن قوم من أشباهه حين أبوا مبايعة رسول الله ﷺ إلا أن يجعل لهم الأمر من بعده، فما كان جوابه ﷺ إلا أن أعلمهم أن (الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). (الأعراف من الآية 128)
مُتحامـل وإما شخص أساء فينا ظنه وأحاطت بنا شكوكه. فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم. ولا يتحدث عنا إلا بلسان المتحرج المتشكك. ويأبى إلا أن يلج في غروره ويسدر في شكوكه ويظل مع أوهامه. فهذا: – ندعو الله لنا وله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا وإياه الرشد. – ندعوه إن قبل الدعاء ونناديه إن أجاب النداء وندعو الله فيه وهو أهل الرجاء، ولقد أنزل الله على نبيه الكريم في صنف من الناس (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص: 56].
وهذا سنظل نحبه ونرجو فيئه إلينا واقتناعه بدعوتنا، وإنما شعارنا معه ما أرشدنا إليه المصطفى ﷺ من قبل: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ».
نحب أن يكون الناس معنا واحداً من هؤلاء، وقد حان الوقت الذي يجب فيه على المسلم أن يدرك غايته ويحدد وجهته، ويعمل لهذه الوجهة حتى يصل إلى غايته المنشودة، أما تلك الغفلة السادرة والخطرات اللاهية والقلوب الساهية والانصياع الأعمى واتباع كل ناعق فما هو من سبيل المؤمنين في شيء.
وصنف الإمام الشهيد حسن البنا الناس الذين لهم تساؤلات عن هذه الدعوة إلى عدة أصناف، وقد أورد ذلك فى رسالته القيمة(هل نحن قوم عمليون؟)(**)، تحت عنوان:(سؤال مهم .. وأصناف سائليه)، فقال رحمه الله:
ويبقي سؤال آخر يتردد كثيراً على أفواه الناس كذلك كلما دعاهم داع إلى تشجيع هذه الجماعة، التي تدأب على العمل ليل نهار لا تبتغي من أحد جزاءً ولا شكوراً، ولا تعمل إلا لله وحده ولا تعتمد في خطواتها إلا على تأييده ونصره وما النصر إلا من عند الله، وشعار كل عامل من العاملين: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
هذا السؤال الآخر أن يقول لك ذلك الذي تدعوه في استهانة وإعراض غالبا: وهل هذه الجماعة جماعة عملية؟ وهل أعضاؤها قوم عمليون؟ وهذا السائل أحد أصناف من الناس:
1-إما شخص متهكم مستهتر: لا يعنيه إلا أمر نفسه، ولا يقصد من إلقاء هذا السؤال إلا أن يهزأ بالجماعات والدعوات والمبادئ والمصلحين، لأنه لا يدين بغير مصلحته الشخصية، ولا يهمه من أمر الناس إلا الناحية التي يستغلهم منها لفائدتهم فقط.
2-أو هو شخص غافل عن نفسه وعن الناس جميعا: فلا غاية، ولا وسيلة، ولا فكر.
3-وإما شخص مغرم بتشقيق الكلام وتنميق الجمل والعبارات وإرسال الالفاظ فخمة ضخمة. ليقول السامعون إنه عالم، وليظن الناس أنه على شيء وليس هو على شيء، وليلقي في روعك أنه يود العمل ولا يقعده عن مزاولته إلا أنه لا يجد الطريق العملي إليه، وهو يعلم كذب نفسه في هذه الدعوى، وإنما يتخذها ستارا يغطي به قصوره وخوره وأنانيته وأثرته.
4-وإما شخص يحاول تعجيز من يدعوه: ليتخذ من عجزه عن الإجابة عذرًا للقعود بالعلة للخمول والمكسلة، وسببًا للانصراف عن العمل للمجموع.
وآية ذلك عند هؤلاء جميعًا، أنك إذا فاجأتهم بالطريق العمليّ، وأوضحت لهم مناهج العمل المثمر، وأخذت بأبصارهم وأسماعهم وعقولهم وأيديهم إلى الطريق المستقيم، لوّوا رؤوسهم وحاروا في أمرهم وأسقط في أيديهم، وظهر الاضطراب والتردد في الفاظهم وحركاتهم وسكناتهم، وأخذوا ينتحلون المعاذير، ويرجئونك إلى وقت الفراغ، ويتخلصون منك بمختلف الوسائل، ذلك بعد آن يكونوا أمضوك اعتراضًا وأجهدوك نقاشًا ومحاوره، ورأيتهم بعد ذلك يصدون وهم مستكبرون.
وإنما مثلهم في ذلك، كالذي حدثوا أن رجلًا أعد سيفا قاطعًا ورمحًا نافذًا وعدةً وسلاحًا، وأخذ كل ليلة ينظر إليها ويتحرق أسفا ً لأنه لا يرى خصما أمامه يُظهر في نزاله براعته ويؤيد بحربه شجاعته، فأرادت امرأة أن تختبر صدق قوله، فأيقظته ذات ليلة مع السحر ونادته بلهجة المستغيث: قم أبا فلان فقد طرقتنا الخيل، فاستيقظ فزعا تعلوه صفرة الجبن وتهز أوصاله رعدة الخوف، وأخذ يردد في ذهول واضطراب: الخيل. الخيل. لا يزيد على ذلك ولا يحاول أن يدفع عن نفسه، وأصبح الصبح وقد ذهب عقله خوفًا وإشفاقا، وطار لبه وجلاً ورعباً، وما نازل خصماً ولا رأى عدواً، وذلك كما قال القائل:
وليس لنا مع هذا الالوان من الناس قول وليس لهم عندنا جواب إلا أن نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين، وما لهؤلاء كتبنا ولا إياهم خطبنا، فلقد أملنا فيهم الخير طويلا، انخدعنا بمعسول دعاويهم وعذب الفاظهم حينا. ثم تكشف أمرهم عن وقت أضيع، ومجهود عقيم، وتعويق عن الطريق. رأينا منهم ضروباً والواناً وأصنافاً وأشكالاً جعلت النفس لا تركن إليهم ولا تعتمد في شأن من الشؤون مهما كان صغيرا عليهم.
5-وهناك صنف آخر من الناس: قليل بعدده كثير بجهده، نادر ولكنه مبارك ميمون، يسالك هذا السؤال إذا دعوته المشاركة والتشجيع بغيرة وإخلاص، إنه غيور تملأ الغيرة قلبه، عامل يود لو علم طريق العمل المثمر ليندفع فيها، مجاهدا ولكنه لا يرى الميدان الذي تظهر فيه بطولته، خبر الناس ودرس الهيئات وتقلب في الجماعات فلم يرى ما يملأ نفسه ويشبع نهمته ويسكن فؤاده ويقر ثأر شعوره ويرضي يقظة ضميره، ولو رآه لكان أول الصف ولعُد في الميدان بألف، ولكان في حلبة العاملين سابقا مجليا سائل الغرة ممسوح الجبين.
هذا الصنف هو الحلقة المفقودة والضالة المنشودة، وأنا على ثقة أنه إن وقع في أذنه هذا النداء وتلقى فؤاده هذا النجاء لن يكون إلا أحد الرجلين: إما عامل مع المجدين، وإما عاطف من المحبين، ولن يكون غير ذلك أبدا. فهو إن لم يكن للفكرة فلن يكون عليها. ولهذا الصنف نكتب. وإياه نخاطب ومعه نتفاهم. وان الله وحده هو الذي يختار جنده وينتخب صفوة العاملين له: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)، ولعلنا نوفق إلى ما قصدنا إليه. (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)، (الآحزاب: من الآية 4)
—————
(*) رسالة: (دعوتنا) للإمام حسن البنا، 20 محرم، 1354هـ – الموافق 23 أبريل 1935م.
(**) رسالة: (هل نحن قوم عمليون؟) للإمام حسن البنا، 18 ربيع الثاني 1353هـ – الموافق 10 أغسطس 1934م.