يقول ربنا سبحانه (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) يوسف 90، ويقول رسولنا الأمين ﷺ، في حديث صهيب رضي الله عنه: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه» رواه مسلم.
إن من حقائق القرآن الدامغة، ومن سنن الدعوات الواقعة، سنة التدافع بين الحق وأهله والباطل وحزبه، وأن أهل الدعوة والإصلاح وهم يسيرون على طريقها يجاهدون ويصلحون، لا بدَّ من أن تقف دون سيرهم العقبات، ويتعرضون لألوان من الفتن والابتلاءات، وتُثار حول دعوتهم الأكاذيب والشبهات، ليس فقط في أيام الاستضعاف والمحن، ولكن أيضا في زمن التمكين والمِننّ، لأن دوافع الباطل واحدة وإن تغيرت المراحل والأساليب، ومقاصده ثابتة وإن تبدلت الأحوال، ألا وهي الكيد الدائم للحق وأهله، والتشويه المستمر للطريق وللسائرين عليه، واختلاق الأكاذيب والشائعات حول الدعوة ومنهجها ورجالها وتاريخها، والتنكيل بأبنائها ومحاصرتهم، وقتلهم وتشريدهم، وسلب حرياتهم، ومصادرة أموالهم، (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْم طَاغُونَ)، فهذا هو دأب الباطل، وهذه طبيعة الطريق وتلكم هي معالمه.
وفي هذا التدافع بين الحق الباطل الدروس والعبر لنا على الطريق، ففيه تأكيد لطبيعة طريق الدعوات وما يحدث للسائرين عليها، وفيه كشف لحقيقة المعركة بين الحق والباطل، وفيه فضح للمرجفين والمنافقين الذين يدورون في فلك الباطل وحزبه، وفيه اختبار لثبات أهل الحق وثقتهم في الطريق ويقينهم في نصر الله وتأييده للمؤمنين، وفيه أيضا تمحيص لصفهم وتنقية لجمعهم، ولا سيما ما يتعلق بأخوتهم وثباتهم وثقتهم في منهجهم وقيادتهم.
قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة 214. ويقول سبحانه: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت) ويقول عز من قائل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31). وفيها أيضا اختبار لهم في حالهم مع ربهم وقت الرخاء وإقبال الدنيا. وثباتهم أمام فتن المناصب والمسئوليات وعدم تغير نفوسهم وقلوبهم. ﴿عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ الأعراف:129.
إذاً في كل الأحوال والظروف نقول أن ما يتعرض له أصحاب الدعوات من هجوم مستمر وتشويه متعمد ممنهج، هي طبيعة الصراع التي نوقن بها، ومفرزة الطريق التي نعيها، ليميز الله الخبيث من الطيب.
من هنا كان استشعار أصحاب الدعوة معية الله سبحانه، وتحليهم بالصبر والثبات، مع يقينهم في تأييد الله لهم وحفظه لدعوتهم، هي زادهم وسلواهم وعدتهم في مواجهة فتن الطريق وعقباته.
وها نحن نرى اليوم كما كان بالأمس سيلاً هادراً من التشكيك في الدعوة وأهلها ومنهجها وطريقها، وكماً كبيراً من السهام التي تنال من الصالحين المصلحين، ولم يخجل هؤلاء ويتعظون أنهم كانوا يوما أعوانا وأبواقا لنظام تجبر وظلم، وبظلمه وفساده هوى وسقط، ولكن زاد حنقهم وتضخم غل قلوبهم على الدعوة وأهلها بعد أن كتب الله لها من فضله قبولا في نفوس الناس، فقدمهم الشعب ومنحهم ثقته لتحمل أمانة المسؤولية، ليصلحوا ما أفسده الفاسدون.
ولعل سلوك هؤلاء المرضى (مرضى القلوب والعقول) ممن يدَّعون الحرية ويرفعون رايات الليبرالية والديمقراطية الزائفة، يدل على مدى الغل والحقد في قلوبهم نحو الإسلام والإسلاميين وفي مقدمتهم الإخوان المسلمين، كما يدل على حجم الخلل في عقولهم نحو الإسلام ومنهجه العظيم، وكان أحري بدعاة الحرية المزيفة، وصناع الانقلابات الخونة أن يحترموا اختيار الشعب لرئيسهم المنتخب، ولكنهم ما تحملوا أن يتولى الصالحون الأمر، فسارعوا بإخراج ما تضمره نفوسهم من كره وحقد ليس على الإخوان ولكن على هوية الأمة ودينها العظيم.
وقد دفعهم غلهم وحقدهم، أن تآمروا على الشرعية، وخانوا الأمانة، وانقلبوا على الرئيس الشرعي المنتخب، ولما خرجت الملايين بالشوارع والساحات لدحر هذا الانقلاب الظالم، والمطالبة بعودة الشرعية، واعتصموا في ساحات العزة والحرية وفي مقدمتها (رابعة الأبية)، انقض عليهم الأشرار لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فقتلوا وحرقوا وجرحوا الآلاف من الركع السجود، ولا زالوا يريقون الدماء الزكية، وينتهكون الحرمات، ويسلبون الحريات، ويعتقلون الحرائر، في إجرام غير مسبوق، من ثلة مجرمة انتُزعت منها النخوة والرجولة والخوف من الله وعقابه الأليم.
أما نحن أيها المصلحون: فما علينا إلا أن نستعين بربنا الكريم على هؤلاء وغيرهم، وأن نلوذ بحماه، ونستشعر معيته سبحانه وتعالى، وأن نستظل بظل حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يُضام. وفي هذا يقول تعالى في خطاب المؤمنين: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال 46. وفي خطاب رسوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) الطور 48. ومن كان بمعية الله مصحوباً وبعين الله ملحوظاً، فلا يخشى أحداً، حيث يستمد منها قوة يتحمل بها المتاعب ويصبر على المكاره.
وإذا العناية لاحظتك عيونــــــــــها .. نم فالمخاوف كلهن أمان! واصطد بها العنقاء فهي حبائل .. واقتد بها الجوزاء فهي عنان!
وعلينا أيضا أيها الأحبة: أن نصبر على مكرهم وسوء طويتهم وخبت مقاصدهم، ونوقن مع الصبر والثبات والعمل ان الله مع الصابرين، وأن ذلك من عزم الأمور (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) آل عمران 186.
الإمام حسن البنا وتوصيف الحالة وفي هذا المقام لا نجد أبلغ من توصيف الإمام حسن البنا لهذه الحالة في رسالته القيمة (بين الأمس واليوم)، وتحت عنوان (عقبات في طريقنا)، يذكر رضوان الله عليه ما يلي:
«وسيتذّرع الغاصبون بكل طرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ (التوبة) ثم يستكمل كلامه رضي الله عنه فيقول: ولكنَّ الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين».
الصبرعدتنا.. وفي الاستعانة قوتنا الصبر – كما نعلم جميعاً – فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه، ويوطن نفسه عليها في كل أعماله وآماله، فيتحمل المكاره دون ضجر، وينتظر النتائج مهما بعدت، ويواجه الأعباء مهما ثقلت، بقلب لا تعلق به ريبة، وعقل لا تطيش به كربة، فيظل دائماً موفور الثقة، ثابتا على طريقه لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق، ولا يلتفت لمشكك يريد أن يشغله عن هدفه ومقصوده، أو ينشغل بمعوق يريد ان يصرفه لينحرف عن طريقه، بل يظل موقناً أن هذه كله عوارض طبيعية على الطريق، وأن فرج الله قريب، وأن بوادر الصفو لا بدَّ آتيه، وأن من الحكمة انتظارها في يقين وعمل.
ومع عدة الصبر نحتاج لعدة الاستعانة بالله فهو المستعان وعليه التكلان، ولأن العبادة من متطلبات الاستعانة (إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ) فعلينا المزيد من طاعة الله في هذه المرحلة، والاقبال على الله بقلوبنا، والتذلل إليه بقوته وضعفنا، فنستمد منه سبحانه زاد المسير إليه، وعندئذ – بالعبادة والاستعانة – نقوى على القيادة، ويفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.
وصايا غالية وآمال آتيه: 1- الثقة واليقين في نصر الله سبحانه وتأييده لهذه الدعوة، وحفظها من كيد الكائدين ومكر الماكرين. 2- اليقين في وعد الله بحفظ أولياءه والدفاع عنهم، وبغضه لكل خوان كفور (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج: 38].
3- الإيمان الكامل بأن الحق ظاهر وأن الباطل زاهق، وأن الحق يحمل قوته فيه وأن الباطل يحمل ضعفه فيه، وأن الحق أبلج وأن الباطل لجلج، وأن ارتفاع صوت الباطل وترعرع شجرته لا يعني قوته ودوامه، لأن الحق بقوته سيجتث شجرة الباطل، ولن يبقى لها قرار ولا ثمار. (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]، فسبحان من وعده حق.
4- اليقين التام بأن حملات التشويه والتشكيك في الدعوة، والنيل من الدعاة، بقتلهم وسلب حرياتهم، ومحاربتهم في أرزاقهم وأعمالهم لن تنال منهم إلا ما كتب ربنا وقدَّر، وحوادث التاريخ تؤكد؛ أن حملات الكيد بالدعوة والدعاة – مع ثباتهم وصلتهم بربهم – لن تحقق مآربها وستعود على أصحابها بالحسرة والخسران. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون) [الأنفال: 36]
5- اليقين بهلاك الظالمين الذين استباحوا الحرمات، وأن وعد الله فيهم نافذ في الدنيا والآخرة، وأن دماء الأبرياء ومظالمهم ستكون وبالًا على الظالمين وأعوانهم. (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 13]
وفي الختام: نسأل الله أن يحفظ دعوتنا وأن يبارك أخوتنا وأن يوفق قادتنا وأن يجمع على الحق كلمتنا، وأن يفك أسر إخواننا، وأن يرد لنا شرعيتنا وحريتنا التي سلبها اللصوص المجرمون، وأن يشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم بسيادة الحق وأهله وهلاك الباطل وحزبه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ولنعلم -أيها الأحبة الأكارم- علم اليقين أن هذه الدعوة هي دعوة الله عز وجل يحفظها ويرعاها ويحميها، ويحفظ أبناءها الصادقين، ولن يُطفئ نور الله بشر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الصف:8 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين