إلى الدعاة الأحرار خلف الأسوار – بقلم: د. محمد حامد عليوة
الحمد لله تعالى القائل في كتابه العزيز: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت 1-2)، القائل سبحانه: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم 12)، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الداعين إلى الله على بصيرة والمجاهدين فيه بإحسان، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
هي رسالة نرسلها إلى أحبتنا الصابرين المحتسبين الذين غيبتهم السجون عن أهليهم وذويهم وأحبابهم، لا لذنب أذنبوه أو جريمة اقترفتها أيديهم، ولكن فقط لأنهم قالوا ربنا الله، قالوها وهم شرفاء مصلحين، ينادون بالإصلاح في ظل منهج الإسلام العظيم، ويحملون الخير للناس جميعًا.
نقول لهم: أيها الأحبة الكرام، إن غابت عنا أجسادكم فلم تنقطع علاقة القلب بكم، إن كنا قد افتقدنا الاجتماع بكم فإن قلوبنا تجتمع بكم على محبة الله، وتلتقي بكم على طاعته، وهذا هو المعنى العميق الذي يشعر به من يتدبر دعاء رابطة القلوب عند كل غروب؛ «اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحَّدت على دعوتك. إلى آخر الدعاء». واللافت أن دعاء ورد الرابطة ركز على اجتماع القلوب والتقائها ولم يذكر اجتماع الأجساد، وهذا هو معنى الرابطة الحقيقة، أن ترتبط القلوب برباط الأخوة الصادقة بعد أن ارتبطت برباط العقيدة السليمة.
فيا أيها الأحبة: يعلم الله أنكم دائمًا في القلب، ونسأل الله الذي جمع قلوبنا على طاعته أن يجمعنا بكم دائمًا على محبته، ويجمعنا بكم وبجميع إخواننا على سرر متقابلين في مستقر رحمته، ومع ذكرنا المستمر لكم، نذكركم كثيرًا في هذه الأيام ونحن في أيام مباركات وعلى مشارف أعياد طيبات، ونحن بين أولادنا وأهلينا، وأنتم قد حالت غياهب السجون بينكم وبين أهليكم وذويكم، وأبعدتكم عن أحبتكم، وحرمتكم من حريتكم التي كفلها لكم ربكم ودينكم.
الإمام البنا وتوصيف الحالة وفى هذا المقام لا نجد أبلغ من توصيف الإمام حسن البنا لهذه الحالة في رسالته القيّمة (بين الأمس واليوم)، وتحت عنوان (عقبات في طريقنا)، يذكر رضوان الله عليه ما يلي: «وسيتذّرع الغاصبون بكل طرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين علي قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ (التوبة) وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فستسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم وتُعطَّل أعمالكم وتُفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت)، ولكنَّ الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين».
وإليكم هذه القصة البليغة الموجزة: يحكي فضيلة الأستاذ مصطفى مشهور -رحمه الله- عن أحد إخوانه الذين كانوا معه في محنة الاعتقال، أن أخاهم قص عليهم وهم في المعتقل قصة مفادها: «أنه كان هناك ملكًا ظالمًا مستبدًّا، وقد ضاق برجلٍ من الصالحين من رعيته، فأراد أن ينكِّل به ويضيّق عليه، فأمر بحبسه، وبعد فتره أرسل أحد رجاله إلى السجن لينقل له الحالة التي عليها هذا الرجل الصالح، ليتلذذ الملك ويفرح بما عليه الرجل الصالح من ضيق وكرب بعد سجنه، ولما وصل رسول الملك إلى السجن وجد الرجل الصالح في محبسه آمنًا مطمئنًا فرحًا مسرورًا، فاندهش مندوب الملك لهذه الحالة، وسأله: «ما سبب سعادتك وأنت في حبس وضيق؟»
فقال له الرجل الصالح: إني أتناول كل يوم دواءً مكونًا من سبعة عناصر يجعلني كما ترى، فسأله وما هذا الدواء وما عناصره؟ قال الرجل الصالح: العنصر الأول: أني أثق بربي ثقةً مطلقةً تجعلني أطمئن إلى كل ما يقدره لي سبحانه هو خير، وإن بدا لي أنه شر: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾ (البقرة). العنصر الثاني: أني أعلم أن أقدار الله نافذة ولا مفرَّ منها، وأنه لا راد لقضائه، فوجب عليَّ أن أرضى بقضاء الله ولا أتبرم منه. العنصر الثالث: أني علمت أن ما أنا فيه هو امتحان من الله، وأن النجاح فيه يكون بالصبر والاحتساب، وأملي كبير أن الله سيعوضني عن هذا خيرًا، سواء في الدنيا أو الآخرة؛ ولهذا يذهب عني الضيق والقلق وأعيش في سجني مطمئنًا. العنصر الرابع: أني أيقنت أنه إن لم أصبر فماذا يفيد الجزع والحزن والغضب؟ وأن الجزع وعدم الصبر سيجعلان الهمّ الواحد همومًا كثيرةً، ويجعلان صاحبهما في قلق دائم واضطراب مستمر، فلا يستريح في نومه أو يقظته، ولا يستمتع بطعامه وعبادته. العنصر الخامس: أني علمتُ أنه ربما كنتُ أتعرض لبلاء أشد مما أنا فيه، فأحمد الله على ما أنا فيه من بلاء، وكما يقولون: «مَن عرف بلاء غيره هان عليه بلاؤه»؛ ولذلك أنا مطمئن. العنصر السادس: أن مصيبتي ليست في ديني؛ لأن المصيبة الحقيقية تكون في دين المرء، بأن يكون على ضلال أو فسق أو كفر، وفيما عدا ذلك من مال وولد وبدن فكلها مصائب هينة وآثارها أقل بجانب مصيبة الدين، وهذا ما جعل حبيبنا المصطفي يدعو ربه فيقول: «اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا». العنصر السابع: أني في انتظار فرج الله بين لحظة وأخرى؛ لأني على يقين أن الأمور كلها بيد الله، وأن دوام الحال من المحال، وأن أشد ساعات الليل ظلمة قبيل الفجر، وأن مع العسر يسرًا، وهذا كله يجعلني كما ترى.
فلما عاد المندوب إلى الملك وحكى له ما دار بينه وبين الرجل الصالح، والحالة الطبيعية التي عليها الرجل، فاغتاظ الملك مما سمع وقال: «أخرجوه فلا حيلةَ لي معه ومع أمثاله». انتهت القصة.
ولعل في هذه القصة البليغة المعبرة ما يجعلكم تعيشون حال هذا الرجل الصالح الصابر في محنته، وتتذكرون هذه الوصفات السبع التى يتسلى ويتصبر بها في محنته، وبالتالي تتحول محنتكم إلى منحة، وتحولون أوقاتها بصبركم إلى طاعة لربكم دون ضجر أو تألم أو تبرم، حتى يأتي وعد ربكم الحق بالفرج القريب.
وفي الختام: اعلموا أحبتنا أنه لا يقع في ملك الله إلا ما يُريد، وأن ما أنتم فيه الآن ما كان إلا بمشيئة الله وتقديره، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)﴾ (الأنعام).
نسأل الله العلي القدير ونحن في ليلة من ليالي رمضان أن يرفع عنكم ما أنتم فيه من همّ وغمّ وكرب، وأن يردكم إلى أهليكم وأولادكم وأعمالكم وإخوانكم سالمين غانمين، وأن يجعلكم وأولادكم في حرزه وحفظه وضمانه وأمانه، وأن يرزقكم ركنًا من أركانه، ركنًا لا تذروه الرياح ولا تُدركه الرماح، وأن يحفظكم وأولادكم وأموالكم وأعراضكم في المساء والصباح. وكل عام أنتم بخير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.