احذروا التسويف ولا يكن أمركم فُرطا
- zadussaerinweb@gmail.com
- نوفمبر 21, 2019
- أخلاق وقيم تربوية
- 0 Comments
احذروا التسويف ولا يكن أمركم فُرطا – (مع زاد السائرين)
عن الحسن البصري -رحمه الله- قال: «إياك والتسويف فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غدٍ كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم».
ورحم الله من قال:
مَضَى أَمْسُكَ الباقي شَهيدًا معدَّلًا .. وأَصْبحْتَ في يَوْمٍ عَلَيكَ شَهِيْدُ
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة .. فثن بإحسان وأنت حميد
ولاتُرْجِ فعل الخير يومًا إلى غد .. لعلَّ غدًا يأتي وأنت فقيـدُ
فيومك إن أعتبته عاد نفعـه .. عليك وَمَاضي الأَمْسِ ليس يَعُود

أولا: تعريف التسويف:
لغة: التسويف لغة يطلق على معان عدة، نذكر منها:
أ – التأخير والمماطلة، يقال: سوف يسوف تسويفًا أخر، وماطل، يؤخر، ويماطل، تأخيرًا، ومماطلة، وسوف حرف يدخل على الفعل المضارع، فيخصصه للاستقبال ودلالته التأخير، يقال: سوف أسافر.
ب – والتهويل، يقال: سوَّف الأمر تسويفًا معنى هوله وضخم من شأنه، ومنه قوله تعالى: (كُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الأنعام: 67)، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: 3).
ج – والوعد، يقال: سوف بالحسنة تسويفًا يعني وعد بها مستقبلًا ومنه قوله تعالى: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 74)، (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 146).
د – والوعيد، يقال: سوف بالسيئة تسويفا، يعني توعد بها مستقبلا، ومنه قوله تعالى: (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا) (الكهف: 87)، (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59). وعندي أنه لا تعارض بين هذه المعاني جميعًا، إذ هي وعدا، أو وعيدا أو تهويلا إنما ترد إلى معنى التأخير أو التأجيل والمماطلة.
اصطلاحا: أما معنى التسويف اصطلاحًا، فهو المماطلة أو التأجيل على سبيل التهويل، والتضخيم لتنفيذ المطلوب وعدا كان أو وعيدا.
ثانيا: وضع التسويف في ميزان الإسلام مع بعض ما يدل عليه من سمات ومظاهر: والتسويف بهذا المعنى ليس مذموما كله وليس محمودا كله، بل منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود.
فأما المذموم: فهو التأجيل أو التأخير لتنفيذ المطلوب بغير مبرر أو مقتضى، وهو الذي نبه إليه الحق – تبارك وتعالى – بقوله: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون: 10)، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون: 99)، (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفًّا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي) (الفجر: 21-24)، (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) (الزمر: 55-58).
كما نبه إليه النبي ﷺ بقوله: «بادروا بالأعمال الصالحة سبعا: هل تنتظرون إلا فقرأ منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضا مفسداً، أو هرما مفنداً، أو موتا مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
وأما المحمود: فهو التهويل أو الوعد والوعيد، دفعا لفعل خير، أو ترك شر، أو ترقبا وانتظارًا للحظة مناسبة، وفرصة مواتية، ويدلنا على حسن هذا النوع من التسويف وروده في كلام الحق – تبارك وتعالى – في كتابه الكريم، إذ يقول سبحانه: (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا) (النساء: 30)، (إن الذين كفروا يآياتنا سوف نُصليهم نارا) (النساء: 56)، (وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) (النساء)، (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) (المائدة: 54)، (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون}(الأعراف)، (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) (التكاثر: 3-4)
كما يدلنا على حسن هذا النوع من التسويف، وروده على لسان بعض الأنبياء كما حكى القرآن الكريم: فقد طلب أولاد يعقوب من أبيهم أن يعفو عنهم وأن يستغفر لهم ربهم، بعد أن أدركوا خطأهم الذي وقعوا فيه بشأن يوسف عليه السلام قائلين: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) (يوسف: 97)، فرد عليهم قائلا: (سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) (يوسف: 98). ونصح نوح قومه، فلما أعرضوا وكذبوا، توعدهم قائـلا: (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه) (هود: 39)، ومثل ذلك صنع شعيب عليه السلام، فقال: (سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب) (هود: 93).
وأما السمات أو المظاهر الدالة على التسويف فكثيرة نذكر منها:
1- البقاء على المعصية مع الوعد بالتوبة بأن يقول العاصي: سوف أتوب، أو سأتوب، أو غدا أتوب، وهكذا.
2- تأجيل عمل اليوم إلى الغد بغير مبرر، ولا مقتضى، بأن يقول المسلم: غدا أفعل كذا، أو أنفذ كذا مما يلزم أن يكون فعله أو تنفيذه توا، وحالا، ولا يفعل، ولا ينفذ. ومثاله من الواقع أن يكلف محاضر أو مربّ بالتحضير لموضوع ما قبله بوقت كاف، ويظل يؤخره ويؤخره حتى يدخل عليه الوقت، وما صنع شيئا، أو صنع شيئا ولكنه لا يذكر. وهكذا.
ثالثا: أسباب التسويف:
والأسباب أو البواعث التي توقع في التسويف كثيرة نذكر منها:
1- الأسرة التي تبنى حياتها على التسويف أو تدليل الأولاد: إذ قد ينشأ المسلم في أسرة بنت حياتها على التسويف، فالأب، والأم، والأجداد، والإخوة الكبار غارقون من مفرق رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم في الأخطاء، ويعدون بالتغيير ولا تغيير، ولهم أماني طويلة، وعريضة، ولا تنفذ ولا تطبق، وقد تبغي الأسرة حياتها على تدليل الأولاد القائم على الحنو والشفقة المجاوزين للحد، فيندفع الابن إلى أداء المعروف محاكاة للكبار، فتمنعه الأسرة من أداء هذا المعروف بحجة صغره وعدم إطاقته، وتعده بإفساح المجال له في المستقبل، ويتكرر ذلك في كل مرة، حتى يرث هذا الابن خلق التسويف.
ولعلنا في ضوء هذا السبب نفهم السر في تأكيده ﷺ على ضرورة الوفاء للأولاد إذا تم وعدهم بشيء، وإلا كان ذلك تعويدا للأولاد على الكذب، نظرا لأنه تسويف والتسويف أوسع أبواب الكذب، إذ يقول عبد الله بن عامر: دعتني أمي يوماً، ورسول الله ﷺ قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله ﷺ: «وما أردت أن تعطيه؟»، قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله ﷺ: «أما إنك لو لم تعطيه شيئا، كتبت عليك كذبة».
كما نفهم في ضوء هذا السبب أيضا حزم الأنصار مع أولادهم دفعًا لهم إلى المبادرة بفعل المعروف، وقطع الطريق على التسويف وخصوصا في تعويدهم على الصوم منذ نعومة أظفارهم، إذ تقول الربيع بنت معوذ: أرسل النبي ﷺ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: «من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم»، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار، وفي رواية: فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم. وعن رزينة أن النبي ﷺ كان يأمر مرضعاته في عاشوراء، ورضعاء فاطمة، فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهم ألا يرضعن إلى الليل.
2- صحبة الكسالى والمسوفين: وقد تكون صحبة الكسالى، والمسوفين السبب في التسويف، ولا سيما إذا كانت هذه الصحبة قبل إيجاد الحصانة التي تحول دون انتقال عدوى الكسل والتسويف. ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على الصحبة الطيبة، ونبذ ما عداها، إذ جاء في الحديث قوله ﷺ: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي».
3- ضعف الإرادة أو الكسل والتراخي مع النفس: وقد يكون ضعف ا لإرادة، وفتور العزيمة، ونزول الهمة، أو الكسل والتراخي مع النفس سببا من الأسباب التي تؤدي إلى التسويف، فمثلا بينما الواجب ينادي المسلم ويلح عليه إذ يدعوه ضعف الإرادة وفتور العزيمة، ونزول الهمة، أو الكسل والتراخي مع النفس إلى القعود عن أداء هذا الواجب بحجة أن في الغد فسحة أو فرصة. ولعلنا في ضوء هذا السبب نفهم استعاذته ﷺ الدائمة من العجز والكسل، إذ كان كثيرًا ما يدعو في الصباح والمساء بهذا الدعاء: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن، والهرم»، وفي رواية ثانية: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال»، وفي رواية ثالثة: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
4- أمن مكر الله: وقد يكون أمن مكر الله سببا من الأسباب التي توقع في التسويف، إذ الإنسان مجبول على المبادرة والإسراع بأداء ما يطلب منه عندما يخاف، وعلى التواني والتفريط إذا أمن، ولقد أشار رب العزة إلى هذا السبب عند حديثه عن الكفار ومضيهم في كفرهم وباطلهم، فقال سبحانه: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم باسئنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (الأعراف: 97-99)، (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير) (الملك: 16-17)، (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون)، (يوسف: 107)، (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم في تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) (الإسراء).
5- طول الأمل مع نسيان الموت والدار الآخرة: وقد يكون طول الأمل مع نسيان الموت والدار الآخرة من الأسباب التي تؤدي إلى التسويف. يقول الإمام أبو حامد الغزالي في تصوير هذا السبب: «اعلم أن من له أخوان غائبان، وينتظر قدوم أحدهما في غد، وينتظر الآخر بعد شهر أو سنة، فلا يستعد للذي يقدم إلى شهر أو سنة، وإنما يستعد للذي ينتظر قدومه غدا، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار، فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة، اشتغل بالمدة، ونسي ما وراء المدة، ثم يصبح كل يوم، وهو منتظر للسنة بكمالها، لا ينقص منها اليوم الذي مضى وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبدا، فإنه أبدا يرى لنفسه متسعا تلك السنة، فيؤخر العمل».
ويقول الحافظ ابن الجوزي في تصوير نفس السبب: «يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدا، ولا يغتر بالشباب، والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا: يعمر واحد، فيغر قوما وينسى من يموت من الشباب ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلا، وإنما يقدم المعاصي، ويؤخر التوبة لطول الأمل، وتبادر الشهوات، وتنسى ا لإنابة لطول ا لأمل».
ولعل هذا السبب يفسر لنا تحذيره ﷺ من طول الأمل، والركون إلى الدنيا، والغفلة عن الآخرة، فقد خط صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا».
6- الاستهانة بالأمر مع اعتماد المرء على بعض ما وهبه الله من حول وقوة: وقد تكون الاستهانة بالأمر مع اعتماد المرء على بعض ما وهبه الله من حول وقوة هي السبب في التسويف. ولعل خير ما يشرح هذا السبب ويجليه، قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وتخلفه عن غزوة تبوك، إذ يحكي عن نفسه، فيقول:
«كان من خبري أني لم أكن قط أقوى، ولا أيسر حين تخلفت منه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله ﷺ يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله ﷺ في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومغازا، وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله ﷺ كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ – يريد الديوان – قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له، ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله ﷺ تلك الغزوة حين طابت الثمار، والظلال، وتجهز رسول الله ﷺ والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي، حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله ﷺ والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم، أو يومين، ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم – وليتني فعلت – فلم يقدر لي ذلك».
7- التعويل على عفو الله ومغفرته مع نسيان شدة أخذه وعقابه: وقد يكون التعويل على عفو الله، ومغفرته، مع نسيان شدة أخذه سبحانه، وعقابه، هو السبب في الوقوع في آفة التسويف، وقد سبق الحافظ ابن الجوزي إلى هذا السبب، فقال – بعد أن ذكر سببين للتسويف: «والثالث: رجاء الرحمة، فيرى العاصي يقول: رب رحيم وينسى أنه شديد العقاب، ولو علم أن رحمته ليست رقة، إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفور، ولا آلم طفلا، وعقابه غير مأمون، فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة قراريط».
8- عدم المتابعة والمحاسبة من الآخرين: وقد يكون السبب في التسويف إنما هو عدم المتابعة والمحاسبة الآخرين، ذلك أن المسلمين بعضهم أولياء بعض، ومقتضى هذه الولاية ينصح بعضهم بعضًا، وأن يتابع بعضهم بعضا بل أن يحاسب بعضهم بعضا وهذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المشار إليهما في قوله سبحانه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة: 71) وعندما تغيب هذه الولاية من حياة المسلمين، فلا تكون متابعة، ولا محاسبة، يتجرأ الناس على الإهمال ويقع التسويف.
9- الانغماس في المعاصي والسيئات: وقد يكون الانغماس في المعاصي والسيئات إنما هو السبب في التسويف، ذلك أن كثرة المعاصي والسيئات، تقسي القلب، وتكون من شأن هذه المعاصي، وتلك السيئات، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى الإهمال، والوقوع في التسويف. ولقد ألمح إلى ذلك رسول الله ﷺ عندما قال: «وإن الفاجر يرى ذنوبه، كذباب مر على أنفه فقال به هكذا».
10- عدم تقدير العواقب والآثار المترتبة على التسويف: وأخيرا، قد يكون عدم تقدير العواقب والآثار المترتبة على التسويف إنما هو السبب في الوقوع في هذا التسويف، ذلك أن الإنسان جبول على تأخير الشيء، والتواني فيه، إذا لم يقدر عواقبه الوخيمة، وآثاره السيئة، ولعل ذلك من بين الأسباب التي أدت إلى أن تكون أكثر أحكام ديننا الحنيف معللة مقرونة بحكمة التشريع.
رابعا: آثار التسويف:
وللتسويف آثار ضارة، وعواقب وخيمة، سواء على العاملين، أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب:
أ – على العاملين: أما آثار التسويف على العاملين فكثيرة، نذكر منها:
1- الحسرة والندم في وقت لا تنفع فيه الحسرة والندم: ذلك أن المسوف يقضي دهره متعديا على حدود الله، مفرطًا في جنبه حتى إذا جاءه الموت، وكشف عنه الغطاء، وعاين الأمور على حقيقتهما يتحسر ويندم، ويتمنى التأخير، أو الرجعة إلى الدنيا ليتدارك أمره، وأنى له ذلك، وقد ضاعت منه الفرصة وفات الأوان، يقول تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (المؤمنون: 99-100)، (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فاصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون) (المنافقون: 10-11)، (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) (الأنعام: 27).
2- الحرمان من الأجر والثواب: وهو كذلك بتعديه على حدود الله، وتفريطه في جنبه سبحانه حرم نفسه من كثير من الأجر والثواب، وما قيمة الإنسان غدا إذا لقي ربه بغير أجر ولا مثوبة، إن قيمته إذن أن يكون من أصحاب الجحيم، وتلك هي الخسارة الحقيقية، وصدق الله الذي يقول: (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) (الزمر: 15)، (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) (الشورى: 45).
3- تراكم الذنوب، وصعوبة التوبة: والتسويف يؤدي إلى تراكم الذنوب، وإذا تراكمت الذنوب ثقلت على المرء، وحار حيرة شديدة، بأيها يبدأ، وبأيها ينتهي، الأمر الذي يؤول به إلى استثقال التوبة وصعوبتها وواقع العصاة والمذنبين في كل عصر ومصر خير شاهد على ذلك.
4- تراكم ا لأعمال، وصعوبة الأداء: وقد يؤدي التسويف إلى تراكم الأعمال، وتزاحم الأعباء، فلا يدري المرء أيها يقدم، وأيها يؤخر، ومن ثم يتشتت فكره ويضيع سعيه، ويصبح أمره فرطا، ولا يمكن أن ينجز واجبًا من الواجبات.
5- ضياع الهيبة، وعدم القدرة على التأثير في الناس: وهو بتعديه على حدود الله، وتفريطه في جنبه سبحانه وعدم قيامه بواجبه نحو ربه، ونحو نفسه، وذويه، ونحو أمته، تضيع هيبته من صدور الناس، ولا يتمكن من إتقان أي عمل من الأعمال، الأمر الذي يفقده القدرة على التأثير في الناس، وإذا ضاعت هيبة المسلم من صدور الناس فقد القدرة على التأثير فيهم، واستوى معهم، وكيف يستوي معهم، والمفروض أنه إمامهم، ورائدهم كما قال سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيـدا) (البقرة: 143)، (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) (الحج: 78).
ب – على العمل الإسلامي: وأما آثار التسويف على العمل الإسلامي فكثيرة أيضا، ونذكر منها: 1- تطويق العمل الإسلامي: الأمر الذي يؤدي إلى طول الطريق وكثرة التكاليف، ذلك أن التسويف ينتهي بأصحابه إلى ضياع الهيبة، وفقدان عنصر التأثير في الناس كما قدمنا، الأمر الذي يطمع العدو، ويقلل من الأنصار، وبذلك يسهل تطويق هذا العمل، وتكثر التكاليف وتطول الطريق.
2- الحرمان من العون والمدد الإلهي: وذلك أن من سنته سبحانه في خلقه أنه لا يمنحهم عونه ولا مدده وهم مسوفون، متعدون على حدود الله، مفرطون في جنبه سبحانه، وإذا حرم العمل الإسلامي عونه ومدده سبحانه، فعلى هذا العمل السلام، ولن يصل إلى مبتغاه، وإن تعلق بأسباب السماء.
خامسا: علاج التسويف:
وما دمنا قد وقفنا على ماهية ومظاهر وأسباب وآثار التسويف، فإنه يسهل علينا الآن أن نسعى نحو العلاج، والوقاية، بل أن نصف هذا العلاج وهذه الوقاية، وذلك على النحو التالي:
1- أخذ النفس بالحزم، وقوة العزيمة، ولأن تتعب النفس اليوم لتستريح غدا، خير لها من أن تستريح اليوم، وتتعب غدا، وأيضا لأن مكر الله غير مأمون، والموت يأتي بغتة، وإذا لم يأت بغتة فإنه يسبقه المرض، ثم يكون الموت، وهو سبحانه يقول: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفر يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكـافرين) (الزمر: 54-59).
2- تذكير النفس دومًا بأن التسويف عجز وضعف، وخور، وليس من سمات المسلم العجز، والضعف، والخور، بل إن الإنسان إذا كان معتزا بإنسانيته فإنه يأبى عليها هذه الأوصاف، وإن مثل هذا التذكير إن كان صادقا، وانفعلت به النفس، فإنه سيقودها حتما إلى التشمير، والمسارعة بترك المحظور والمكروه، وفعل المأمور والمحبوب، ورضي الله عن سيدنا عمر حين قال: «من القوة ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد».
3- دوام الدعاء والضراعة إلى الله – عز وجل – بالتحرر من العجز والكسل على نحو ما قدمنا في دعاء وضراعة النبي ﷺ في الصباح والمساء، فإن الدعاء هو العبادة، وهو سبحانه يقول: (ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر: 60)، (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) (البقرة: 186).
4- أن تأخذ البيوت نفسها بالحزم والعزم حتى لا تفسد الناشئة من الأولاد، وعلى الأولاد من جانب آخر أن يشبوا على تعلم وتعاليم الكتاب والسنة، وأن يزنوا كل تصرف بهما، فما وافقهما فهو الحق، وعليهم اتباعه، وما خالفهما فهو الباطل، وعليهم اجتنابه.
5- الانسلاخ من صحبة الكسالى، والمسوفين، والارتماء بين يدي ذوي الحزم، والعزم، والقوة، فإن ذلك من شأنه أن يحمل على مجاهدة النفس وأخذها بالحزم، والعزم، والقوة.
6- دوام معايشة الكتاب والسنة، فإن هذه المعايشة تكون سببا في معرفة الله حق المعرفة، وإذا عرف المسلم ربه حق المعرفة قضى عمره، وكأنما يمشي على الجمر، بحيث لا تمر عليه لحظة إلا وهو فيها مؤدي ما عليه، مستعد للقاء الله – عز وجل.
7- الاحتراز من المعاصي والسيئات بألا يقع فيها المسلم أصلا، وإن وقع بادر بالتوبة، فإن أكثر التسويف مبعثه الانغماس في المعاصي والسيئات على النحو الذي ذكرنا في الأسباب، بل ويشفع ذلك بمزيد من الطاعات: فرائض، ونوافل حتى تلين الجلود، والجوارح، وترق القلوب بذكر الله، فتنشط النفس من عقالها، وتتخلص من التسويف.
8- تذكر الموت والدار الآخرة على الدوام، فان مثل هذا التذكر مما يقلل عمر الدنيا في نظر المسلم، ويهون من شأن زخرفها، وزهرتها، وزينتها، ويحمله على المبادرة بالتوبة، وأداء الحقوق لذويها، وإن ثقل الحمل، وعظمت التكاليف.
9- معايشة السلف في نظرتهم إلى التسويف، ونفورهم منه نفورا شديدا قولا، وفعلا، فكرا، وسلوكا، وسبق قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «من القوة ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد».
وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك الخليفة الذي كان قبله، وانتهى من الخطبة التي افتتح بها حكمه بعد أن بايعه الناس، ينزل عن المنبر ويتجه إلى بيته، ويأوي إلى حجرته يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد هذا الجهد، وذلك العناء اللذين كان فيهما منذ وفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك.
وما يكاد يسلم جنبه إلى مضجعه حتى يقبل عليه ولده عبد الملك – وكان يومئذ يتجه نحو السابعة عشرة من عمره – ويقول له: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بني، أريد أن أغفو قليلا، فلم تبق في جسدي طاقة، فقال: أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في عمك سليمان، وإني إذا حان الظهر صليت في الناس، ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فقال: ومن لك يا أمير المؤمنين بان تعيش إلى الظهر؟ فألهبت هذه الكلمة عزيمة عمر، وأطارت النوم من عينيه وبعثت القوة والعزم في جسده المتعب، وقال: ادن مني أي بني، فدنا منه، فضمه إليه، وقبل ما بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي، من يعينني على ديني، ثم قام، وأمر أن ينادي في الناس: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
وقال لقمان لابنه: «يا بني، لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف، كان بين خطرين عظيمين، أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي، حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو، والثاني: أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو».
وعن أبي إسحاق قال: قيل لرجل من عبد القيس في مرضه: أوصنا قال: «أنذرتكم سوف». وأوصى ثمامة بن بجاد السلمي قومه، فقال: «أي قوم، أنذرتكم سوف أعمل، سوف أصلي، سوف أصوم».
ويقول الحسن البصري رضي الله عنه: «إياك والتسويف، فانك بيومك، ولست بغدك، فإن يكن غد لك، فكس فيه – أي اعمل عملا تكون به كيسا – كما كست في اليوم، وإلا يكن الغد لك، لم تندم على ما فرطت في اليوم».
وقال المنذر: «سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك، بادري قبل أن يأتيك، ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر. حتى كرر ذلك ستين مرة أسمعه، ولا يراني».
واجتهد سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته، اجتهادا شديدا، فقيل له: «لو أمسكت، أو رفقت بنفسك بعض الرفق، فقال: «إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك»، قال: فلم يزل حتى مات.
10- أن تقوم الأمة كلها على المستوى القيادي، وغير القيادي، في متابعة ومحاسبة المسوفين، فإن هذه المتابعة، وتلك المحاسبة، تقطع الطريق على النفس، وتحول بينها وبين التسويف، وهذا من حق الأمة على بعضها البعض وصدق الله العظيم: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله) (التوبة: 71).
11- عدم الاستهانة بأي أمر من الأمور، وإن كان هذا الأمر بسيطا، واليقين بأن الأمر كله لله، والفرصة التي في يدك الآن قد تضيع منك غدا.
12- التذكير الدائب بالعواقب والآثار المترتبة على التسويف، فان هذا التذكير من شأنه أن يشحذ الهمم، والعزائم، وأن يقضي على التسويف عند من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
———————————-

