في واجبات القيادة وأمانة المسؤولية – د. محمد حامد عليوة
من يتدبر قول الله عز وجل على لسان نبيه موسى لأخيه هارون عليهما السلام: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف:142)، يجد نفسه أمام آية عظيمة، تشتمل على كثير من الدلالات التربوية والإرشادات الدعوية بعامة، وللعاملين في حقل الدعوة الإسلامية بخاصة.
وقد جمع سيدنا موسى في وصيته لأخيه هارون؛ ملاك السياسة كما أورد بن عاشور في تفسيره لهذه الآية فقال: «وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله: (وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فإن سياسة الأمة تدور حول مِحور الإصلاح، وهو جعل الشيء صالحًا، فجميعُ تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحًا، ولا تلبث أن تؤول فسادًا على مَن لاحت عنده صلاحًا.»(1)
وقفة مع المعنى الإجمالي للآية قال الله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(الأعراف:142)، والآية نزلت بعد هلاك فرعون، ونجاة موسى ومن معه، نزلت وهو يتهيأ لموعد ربه لمناجاته سبحانه وتعالى، والمعني الإجمالى لها:
وقال موسى لأخيه هارون حين أراد المضي لمناجاة ربه: –(اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)، أي وكلتك بقومي، فكن خليفتى فيهم إلى أن أرجع.(2)، وكن خليفتي؛ تدل على النيابة.(3). ومعنى اخلفني كن خلفًا عني وخليفة، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف، فالخلافة وكالة.
– (وَأَصْلِحْ): أي وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته.(4)، وقيل: أي ارفق بهم، وأصلح أمرهم، وأصلح نفسك،(5). وقيل أيضا: كن مصلحاً واسلك سبيل الصلاح الذي عُهد منك.
–(وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ): أي لا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض، بمعصيتهم ربهم، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم، ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم.(6)، ولا تسلك سبيل العاصين، ولا تكن عونا للظالمين(7).
الدلالات والارشادات الدعوية والتربوية 1- أن من متطلبات العمل الجماعي وقواعده الحاكمة أن يظل لواء القيادة معقودًا، وإن غاب القائدة فترة من الزمن، يرفعه من يخلفه حتى يرجع، لأن الجماعة المؤمنة لا يستقيم أمرها دون قيادة، فقد أوضح الإمام حسن البنا – رحمه الله – أن: «القائد جزء من الدعوة، ولا دعوة بغير قيادة.»(8) وللقيادة رمزية لا بدَّ أن تظل قائمة وعاملة، لأنها رمز الفكرة كما قال الإمام البنا عنها: «هي رمز فكرتكم، وحلقة الاتصال فيما بينكم»، وبالتالى فالحفاظ عليها، والإبقاء على لوائها مرفوعًا من أسس البناء التنظيمي ومن أركان العمل الجماعي.
2- أن القائد لا بدَّ أن يستشعر أمانة المسئولية، ويُقدر ثقل التبعة، فلا يترك قومه أو من يقوم على أمرهم عند غيابه دون مرجعية وقيادة تنظر في شئونهم وتدبر أمورهم، وتقضي فيما بينهم، وكما يقول صاحب الظلال – رحمه الله – في استخلاف سيدنا موسى لأخيه هارون على قومه: «إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل!.»(9)
3- أن التواصي والتناصح على طريق الدعوة من الأمور المهمة، لأن ذلك من أخلاق المؤمنين (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) العصر:3، ولا يوجد على طريق الدعوة من لا يحتاج إلى التوصية أو النصيحة، وكما أخبرنا الصادق المصدوق ﷺ في حديثه: «الدين النصيحة. قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.»، وبالتالي ليس هناك من هو كبير على النصيحة أو لا يحتاج إلى التوصية على الحق وفعل الخير، فسيدنا موسى نبيّ يوصى أخاه هارون وهو نبيّ أيضاً، بأن يخلفه في قومه ويُصلح ولا يتبع سبيل المفسدين، فالناصح والمنصوح هنا من رسل الله تعالى، ﴿فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾، طه:47.
وقد تقبل سيدنا هارون (رسول الله) النصيحة من أخيه سيدنا موسى (رسول الله)، دون أن تثقل على نفسه، وهذه أخلاق الكبار وشيم الأتقياء، لا تؤثر عليهم نصائح غيرهم لهم، وإن علت مكانتهم وسمت منزلتهم، وكما يقول الشهيد سيد قطب فى هذا الموضع: «وقد تلقى هارون النصيحة. لم تثقل على نفسه! فالنصحية إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم!. إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده؛ ليظهر أنه كبير!!»(10)
4- انشغال سيدنا موسى بقومه حال غيابه، وشفقته عليهم، ووصفه لهم في توصيته بلفظ (قَوْمِي)، يدل على ضرورة شعور القائد بجنوده، وإحساس المسئول برعيته، واقترابه منهم، فهم منه وهو منهم. كما نستفيد من هذا الشعور أيضا بأمر آخر وهو، أن مهام المسئول وواجباته الفردية نحو نفسه لا يحب أن تُنسيه رعيته، فسيدنا موسى يذهب لمناجاة ربه، ولكن قلبه وفكره قبل أن يغادر في قومه ورعيته. إنه الشعور بالمسئولية، وحقيقة الانشغال بالرعية.
5- أن التوصية بالإصلاح فيمن استخلفنا الله عليهم لها معاني عدة منها: أ- أن تتحسن أحوالهم وترتقي أعمالهم، فلا يصح أن يتحمل الفرد مسئولية مجموعة، ويتدنى حالهم الإيماني والعبادي والأخلاقي والحركي عن ذى قبل.
ب- أن يحرص من استُخلف على فئة أن يَجهَد لهم، ويبذل من أجلهم، ويقضي الوقت يعالج مشكلاتهم، ويعينهم على تجاوز عثراتهم، وهذا من واجبات الإصلاح ومن متطلبات المسئولية، ففي حديث النبي ﷺ عن معقل بن يسار أن رسول الله قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة، يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ»، وفي رواية أخرى: «ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة». أخرجه البخاري ومسلم
ت- ومن معانى الإصلاح أيضا، أن يُصلح القائد من نفسه وهو يُصلح في رعيته، يقول الشيخ محمد راتب النابلسي في قوله (وأصلح): «يعني: اسلك سبيل الصلاح الذي عُهد منك، لأنك إذا قلت للصالح أصلح، أي داوم على إصلاحك».
وهو نفس ما ذكره بن عاشور في تفسيره لهذه الآية حيث قال: «وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله: (وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فإن سياسة الأمة تدور حول مِحور الإصلاح، وهو جعل الشيء صالحًا، فجميعُ تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحًا، ولا تلبث أن تؤول فسادًا على مَن لاحت عنده صلاحًا». (تفسير التحرير والتنوير – لابن عاشور).
ورحم الله الإمام حسن البنا حين قال في هذا الباب: «يا أخى، فاقد الشيء لا يعطيه، والقلب المنقطع الصلة بالله كيف يسير بالخلق إليه، والتاجر الذي لا يملك رأس المال من أين يربح، والمعلم الذي لايعرف منهاجه كيف يدرسه لسواه، والعاجز عن قيادة نفسه كيف يقود غيره».(11)
6-وختاماً: من اللطائف التربوية حين نتدبر قول الله تعالى: (وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)، نلاحظ أن سيدنا موسى نصح أخيه هارون بعدم اتباع سبيل المفسدين ولم يقل له: (لا تكن من المفسدين)، وفي ذلك إشارة إلى أن طريق الغواية والفساد لا يسلكه السالك فجأة ولا جملة ولكن خطوة خطوة ودرجة درجة، وهذا سلوك الشيطان في غواية بني آدم حين يستدرجهم في طريق المعصية خطوة خطوة، وهو ما نبهنا الله إليه ونهانا عنه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (النور: 21) .
هذه مجموعة من الفوائد والارشادات التربوية لمن يقومون على أمر غيرهم، ومن يُستخلفون على أمانات ومسؤوليات، فالأمر جد خطير، ولا سيما حينما تكون المسؤولية في العمل الاسلامي والدعوة إلى الله تبارك وتعالى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
—————– (1) تفسير التحرير والتنوير – لابن عاشور. (2) تفسير الطبري (3) تفسير القرطبي (4) تفسير الطبري (5) تفسير القرطبي (6) تفسير الطبري (7) تفسير القرطبي (8) مجموعة الرسائل، (رسالة التعاليم). (9) تفسير في ظلال القرآن، الجزء الثالث. (10) تفسير في ظلال القرآن، الجزء الثالث، ص 289. (11) من مقال للإمام منشور للإمام البنا، في جريدة (الإخوان المسلمون)، بتاريخ 4 يونيو 1937م.