والأخُ الصَّادِقُ يرى إخوانَه أوْلَى بنفسِه من نفسِه؛ لأنَّه إنْ لم يكنْ بهم فلنْ يكونَ بغيرِهم، وهم إنْ لم يكونُوا به كانوا بغيرِه، و«إِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ»، و«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وهكذا يجبُ أنْ نكون».
ذلك هو معنى الأُخُوَّةِ التي يسْعَى الإخوانُ لتحقيقِه في واقعِ الأمةِ، حتى لا تبقَى معانيَ نظريةً مثاليةً حالمةً، وإنما تتجسَّدُ في نماذجَ حيةٍ تسعَى بينَ الناس، ويحسُّ أثرَها الجميعُ، وقدَّمَ الإخوانُ في ذلك ما أدهشَ الكثيرين، حتى قال البعضُ عن متانةِ رابطةِ الأخوَّةِ بينهم: «لو عطسَ أحدُ الإخوانِ في أسوان لشَمَّتَه أخوه في الإسكندرية».
الأُخُوَّةُ عِندَنا دِينٌ لم يَزَل الإخوانُ المسلمونَ حريصينَ على تحقيقِ الأُخُوَّةِ الصحيحةِ الكاملةِ فيما بينَهم، مجتهدِينَ ألَّا يُعكِّرَ صَفْوَ علاقاتِهم شيءٌ، مُدْرِكين أنَّ الأخوَّةَ في الدِّين من أفضلِ ما يتقرَّبُون به إلى اللهِ زُلْفَى، ومُلْتَمِسين بالمحافظةِ عليها نَيْلَ الدرجاتِ العُلَى، ويحرِصُ الأخُ على تذكُّرِ إخوانِه والدُّعاءِ لهم مع كُلِّ غروبِ شمسٍ في وِرْدِ الرابطة.
وجاءَ في بعضِ الآثارِ: أنَّ عيسَى عليه السلامُ قال للحَوَارِيِّين: «كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا رَأَيْتُم أَخَاكُمْ نَائِمًا وَقَدْ كَشَفَ الرِّيحُ ثَوْبَهُ عَنْهُ؟» قَالُوا: نَسْتُرُهُ وَنُغَطِّيه، قَالَ: «بَلْ تَكْشِفُونَ عَوْرَتَه!» قَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ! مَنْ يَفْعَلُ هذَا؟ فقال: «أَحَدُكُمْ يَسْمَعُ بِالْكَلِمَةِ فِي أَخِيهِ فَيَزِيدُ عَلَيْهَا وَيُشِيعُهَا بِأَعْظَمَ مِنْهَا». وحتى حين تختلِفُ بالإخوانِ الآراءُ فإنَّ رابطةَ الأُخُوَّةِ ومروءةَ المؤمنِ تحمِيهم من الوقوعِ في الأعْراضِ، أوْ إِشاعةِ الشُّبُهات، أوْ تَرْديدِ المفْتَريات، أو التخلِّي عن أدبِ الوفاء، وهم يحفظُون كلمةَ حكيمِ ألفُقهاء الإمامِ الشافعيِّ رحمه الله: «الحُرُّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ، وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَه لَفْظَةً».
(2) حِفظ حرمة الأخِ في الخلطة الافتراق وهو ما لخَّصه ألفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ رحمه الله في قوله: «نَظَرُ الأخِ إلى وجهِ أخيهِ على المودَّةِ والرحمةِ عِبادةٌ، فلا تصِحُّ المحبَّةُ في اللهِ عزَّ وجلَّ إلا بما شَرَطَ فيها من الرحمةِ في الاجتماعِ والخُلْطِة، وعندَ الافتراقِ: بظهورِ النَّصيحةِ، واجتنابِ الغِيبَةِ، وتمامِ الوفاءِ، ووُجودِ الأُنْسِ، وفَقْدِ الجَفَاءِ، وارتفاعِ الوَحْشَة». وكان يقول: «إذا وقعت الغِيبَةُ، ارتفعتْ الأُخُوَّة».
فليسَ من أخلاقِ الأخِ المسلمِ في شيءٍ أنْ يلتمسَ أسبابَ العيْبِ لِمَنْ خالفَه من إخوانِه أو مِنْ غيرِهم، أو أنْ يسعَى في الانتقاصِ من فضلِه، أو التحقيرِ من عملِه وعطائِه، ويَنْتَصِحُ الإخوانُ بنصيحةِ الفاروقِ عُمَرَ بنِ الخطَّاب لغلامِه أَسْلَم – كما في الأدب المفرد للبخاري -: «لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا، وَلا يَكُنْ بُغْضُكَ تَلَفًا»، قالَ: وكيَف ذلك؟ قالَ: «إِذَا أَحْبَبْتَ فَلا تَكْلَفْ كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِالشَّيْء يُحِبُّهُ، وَإِذَا أَبْغَضْتَ فَلا تَبْغَضْ بُغْضًا تُحِبُّ أَنْ يَتْلَفَ صَاحِبُكَ وَيَهْلِكَ».
وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق عن الحسن قال: «لا تُفْرِطْ فِي حُبِّكَ، وَلا تُفْرِطْ فِي بُغْضِكَ، مَنْ وَجَدَ دُونَ أَخِيهِ سِتْرًا فَلا يَكْشِفْهُ، لَا تَجَسَّسْ أَخَاكَ؛ فَقَدْ نُهِيتَ أَنْ تَجَسَّسَهُ، ولَا تَحْفِرْ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْفِرْ عَنْهُ».
(3) النّصِيحةُ بآدابِها الشَّرعية فلا تعييرَ ولا تشنيعَ ولا تشهيرَ، ولا تجريحَ للأشخاصِ ولا للهيْئاتِ، ولا كشفَ لأسرارِ الناسِ، ولا اختلاقَ ولا كذبَ، ولا تبريرَ للخطإ، ولا مجاملةَ على حسابَ الحق، ولا رغبةَ في التَّشَفِّي ولا انتصارَ للهَوَى، بل هي نصيحةٌ أمينةٌ صادقةٌ، تَبْرَأُ بها الذِّمَّةُ، وتُؤَدَّى بها الأمانةُ، مع بقاءِ المودَّةِ ونَمَاءِ عاطفةِ الأُخُوَّة، وهذا نبيُّ اللهِ هُودٌ عليه السلامُ يقولُ لقومِه الكافرين (وَأنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمِينٌ)، فكيفَ لوْ كانوا مُؤْمنين؟
أخرج أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ». وفي رواية عند الترمذي: «إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ». ولْيضع الأخُ نفسَه دائمًا موضعَ أخيه المنصوحِ، ومثلَما يحبُّ أنْ تُقّدَّم إليه النصيحةُ فليكُنْ تقديمُه النصيحةَ لإخوانِه.
وفهمَ المسلمُون الأوَّلُون رضوانُ الله عليهم من الإسلامِ هذا المعنى الأخويَّ الرَّاقي، وأَمْلَتْ عليهم عقيدتُهم في دينِ الله أَخْلَدَ عواطفِ الحبِّ والتآلفِ، وأَنْبَلَ مظاهر الأُخُوَّةِ والتَّعارُفِ، فكانوا رجلًا واحدًا وقلبًا واحدًا ويدًا واحدةً، فحقَّقَ الله لهم وبهم النصرَ والعِزَّ والتمكين، فهل أنتم فاعلون كما فعلوا ومقتدون بما صنعوا؟
وأختم بهذه القصة التي رواها ابن أبي الدنيا عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: «إِنَّا لَوُقُوفٌ بِجَبَلِ عَرَفَاتٍ، فَإِذَا شَابَّانِ عَلَيْهِمَا الْعَبَاءُ الْقَطَوَانِيُّ نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ: يَا حَبِيبُ، فَأَجَابَهُ الْآخَرُ: لَبَّيْكَ أَيُّهَا الْمُحِبُّ، قَالَ: تَرَى فِي الَّذِي تَحَابَبْنَا فِيهِ وَتَوَادَدْنَا فِيهِ يُعَذِّبُنَا غَدًا فِي الْقِيَأمَةِ؟ قَالَ: فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا، سَمِعَتْهُ الْآذَانُ، وَلَمْ تَرَهُ الْأَعْيُنُ يَقُولُ: لَا لَيْسَ بِفَاعِلٍ».
فلْنَستمسِكْ بهذهِ الأُخُوَّةِ الخالدةِ التي تزولُ الدُّنْيا ولا تزُولُ، وتَفْنَى الأيامُ وهي أبْقَى من الزمنِ، ولْنحرِصْ على أداءِ حُقُوقِها، واستشعارِ قيمتِها، وخصوصًا في هذه الظروف التي تمرُّ بها الدعوةُ والأُمَّةُ، فعلى صخرةِ الأخوَّةِ ستتحطَّمُ كل مكائدِ الكائدينَ بإذن الله، ولْنُحافِظْ على وِرْدِ الرابطةِ اليوميِّ.
واذكروا أخاكم عند الدُّعاء بدعوة، واللهُ معكم ولنْ يَتِرَكُم أعمالَكم، والله أكبر ولله الحمد.
——————- (*) أستاذ الحديث وعلومه، وعميد كلية أصول الدين – جامعة الأزهر بالمنصورة، وعضو مكتب الإرشاد.