الإمام البنا: داعية امتلك مقومات النجاح

الإمام البنا: داعية امتلك مقومات النجاح
بقلم: الدكتور عبد الرحمن البر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
من علامات العظمة التي تحيي موات الأمم أن تختص بقدرتين لا تعهدان في غيرها:-
أولاهما: أن تبتعث كوامن الحياة ودوافع العمل في الأمة بأسرها وفي رجالها الصالحين لخدمتها.
والأخرى: أن تنفذ ببصيرتها إلى أعماق النفوس فتعرف بالبديهة الصائبة والوحي الصادق:-
– فيم تكون عظمة العظيم؟
– ولأي المواقف يصلح ؟
– وبأي الأعمال يضطلع ؟
– ومتى يحين أوانه وتجب ندبته؟
– ومتى ينبغي التريث في أمره إلى حين؟. (1) 

«وإن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضتها ، وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات ، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإني أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته، وفي وسعه كذلك أن يهدمها إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء». (2) 

وإن الإمام البنارحمه الله – كان من ذلك الصنف الذي ذكره العقاد، والذي تحدث هو عنه ، حيث توفرت فيه شرائط الرجولة الصحيحة ، وتوجه برجولته ناحية البناء لا ناحية الهدم، وبعث كوامن الحياة، ودوافع العمل في الأمة بأسرها، وجعل مهمته تأليف الرجال لا تأليف الكتب، ونفذ ببصيرته إلى أعماق النفوس، وربى رجالاً ادّخر كل واحد منهم لمهمة ، وأعد لكل منهم دوره في الجهاد، وعرف عن كل فرد: –

  لأي المواقف يصلح؟

  وبأي الأعمال يضطلع؟

  ومتى يحين أوانه , وتجب ندبته؟

  ومتى ينبغي التريث في أمره إلى حين؟

  ووجد لكل منهم فيما يهمه عملاً يعمله .

وقد أدرك منذ فجر حياته أنه سيعمل في واقع متربص، وفي أحوال غير مساعدة، وفي أجواء غير موافقة، بل في أزمنة مظلمة حالكة، وفي بيئات قاتلة فاتكة، وفي مجتمع أصيب بشلل الفكر، وخواء الروح، وخمود العاطفة، وضعف الإرادة، وخور العزيمة، وسقوط الهمة، وفساد الأخلاق، والإخلاد إلي الراحة، والخضوع للقوة، واليأس من الإصلاح، فأعد نفسه لهذه المهمة إعداداً يليق بما وهب له حياته من أن يكون مرشداً معلماً فيقول – رحمه الله :-

«إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام ، قضيت ليلي في تعليم الآباء؛ هدف دينهم ، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم؛ تارة بالخطابة والمحاورة وأخرى بالتأليف والكتابة وثالثة بالتجوال والسياحة، وقد أعددت لذلك، من الوسائل الخلقية (الثبات والتضحية)؛ وهما ألزم للمصلح من ظله وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقاً يزري به أو يشين، ومن الوسائل العملية :- 

1- درساً طويلاً، سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية؛ (حفظت أكثر من 18000 بيت من الشعر، ومثلها من النثر،ولقد حفظت كثيراً من المتون في العلوم المختلفة؛ فحفظت ملحة الإعراب للحريري، ثم الألفية لابن مالك، والياقوتية في المصطلح، والجوهرة في التوحيد، والرحبية في الميراث، وبعض متن السلم في المنطق، وكثيراً من متن القدوري في فقه أبي حنيفة، ومن متن الغاية والتقريب لأبي شجاع في فقه الشافعية، وبعض منظومة ابن عامر في مذهب المالكية، وحاولت حفظ متن الشاطبية في القراءات) .

2- وتعرفاً بالذين يعتنقون هذا المبدأ ويعطفون على أهله،

3- وجسماً تعود الخشونة على ضآلته، وألف المشقة على نحافته،

4- ونفساً بعتها لله صفقة رابحة، وتجارة بمشيئته منجية، راجياً منه قبولها ، سائله إتمامها» . مذكرات الدعوة والداعية. 

ولقد نجح الإمام البنا في مهمته هذه نجاحاً باهراً استنطق الألسنة، واستلفت الأنظار؛ حتى عدّ في عداد المجددين، وكان من عوامل نجاحه ذلك أنه:

1- عمل للصالح العام فعاش لأمته

من الناس من يعيش لنفسه لا يفكر إلا فيها ولا يعمل إلا لها , فإذا مات لم يأبه به أحد، ولم يحس بحرارة فقده مواطن، ومن الناس من يعيش لأمته، واهباً حياته لها، حاضراً فيها آماله، مضحياً في سبيلها بكل عزيز وغال؛ هؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون وامتلأت بذكرهم القلوب

والإمام الشهيد حسن البنا، أحد أولئك الذين لايدرك البلى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منازلهم، لأنه – رحمه الله – لم يعش في نفسه بل عاش في الناس، ولم يعمل لمصلحته الخاصة بل عمل للصالح العام. وكان يتوجه إلى الناس بهذه العاطفة، ويوصي الإخوان أن يتوجهوا بها إلي الناس قائلا :- «ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من نفوسنا ,وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، وما أوقفنا منهم هذا الموقف إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا  وملكت علينا مشاعرنا، فأقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعنا، وإنه لعزيز علينا جد عزيز أن نري ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذلة، أو نرضي بالهوان، أونستكين لليأس»

ولقد كان شعاره:- «فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم يوماً من الأيام».(3)

ووضح كذلك أنه:- «لن نتقدم لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذه الحال، فلابد من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة». (4)

ولقد بدا هذا الأمر واضحاً لديه منذ أن طلع عليه فجر حياته، فنراه وهو في السنة الرابعة في كلية دار العلوم يكتب عن ذلك حيث يقول:- «أعتقد أن خير النفوس هي تلك النفس الطيبة التي :-

1- ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم.

2- وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم وزود المكروه عنهم.

3- وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحاً وغنيمة، والجهاد في الحق والهداية – على توعر طريقهما، وما فيه من مصاعب ومتاعب – راحة ولذة» . مذكرات الدعوة والداعية 

والذي يعمل للصالح العام لابد له من قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور:-

1- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.

2- ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.

3- وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.

4- ومعرفة بالمبدأ، وإيمان به، وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه، والانحراف عنه، والمساومة عليه، والخديعة بغيره.(5) 

وكذلك كان حسن البنا الرجل الذي عاش لأمته فضحى في سبيلها، وآمن بفكرته فعمل على الوفاء لهاولذلك سلك سبيل المعلمين، حيث أنهم يعملون للناس أكثر مما يعملون لأنفسهم، وإن عملهم عمل يتمتع بنتائجه العامل وغيره من أسرته وأمته وبني جنسه.

2- عاش لغاية آمن بها :

وهو حين يعمل هذا العمل للناس إنما غايته في ذلك كله هو (الله)، فلقد عاش لغاية آمن بها إيماناً شغله عن كل ما يشغل الناس سواه، شغله عن أهله وعن ولده وعن نفسه، حتى أخذت بزمام نفسه، وملكت عليه منافذ حسّه، فعاش من أجلها أشق عيشة وأقساها، ومات في سبيلها أشرف ميتة وأسماهاولقد قال عنها:- «وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه، أن يحوز رضا الله، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه وغضبه».

وبيّن أن الذي يقصد إلى هذه الغاية لا ينفعه أن يكون صالحاً في نفسه فقط، بل لابد أن يدعو غيره كذلك، ولذا ترك طريق التصوف الصادق واتجه إلى سلوك طريق التعليم والإرشاد حيث يتطلب الاختلاط بالناس، ودرس أحوالهم، وغشيان مجامعهم، ووصف العلاج الناجح لعللهم.

وكان ينفذ ببصيرته إلى أعماق النفوس فيشعر بأدوائها، ويتغلغل في مظاهر المجتمع، فيتعرف على ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم، وما يزيد في هذا الصفاء ويضاعف تلك المسرة، لا يحدوه إلى ذلك إلا شعور بالرحمة لبني الإنسان، وعطف عليهم، ورغبة شريفة في خيرهم، والله غايته من وراء ذلك كله.

وكان يعمل لهذه الغاية صيفاً وشتاءً، حراً وبرداً، ليلاً ونهاراً، دونما هوادة أو تردد أو ملل أو أدنى شك فيما هو عليه من الحق المبين. فقد نذر حياته كلها لها فلا يتكلم إلا فيها، ولا يفكر إلا فيها، ولا يحلم إلا بها، ولا تمتلئ عيناه بالدمع إلا لأجلها.

فلو أنه سئل عن كل ساعة أنفقها في تفكير محرق، أو رحلة جاهدة، أو كتيبة مؤرقة، أو صلاة خاشعةولو أنه سئل عن مقدار التضحية التي بذلها في سبيل إيمانه بهذه الغاية لاستطاع أن يقول :- «ضحيت بمالي وبولدي وراحتي، ولم أقصر حياة الشظف والخشونة على نفسي حتى جاوزتها إلى كل مالهم صلة بي، ثم أخيراً ضحيت بنفسي»، وكان شعاره في دعوته (الله غايتنا).

3- إستكمل كل مقومات الداعية المؤثر:

ولما كانت غايته عظيمة وعمله من أجلها عظيم لم يكن كغيره، بل تميز عن غيره تميزاً واضحا، فاجتمع فيه من الصفات ما لم يجتمع لغيره، حيث خلع عليه الإسلام كما كان يفهمه ويدعو إليه حلة أنيقة، لم تتح لغيره من زعماء السياسة ورجال الدين، وكان في عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف، أعطاه قدرة على أن يصرف الأمور في يسر، ويقضي في المشاكل بسرعة، ويفضها في بساطة، ويذهب عنها التعقيد، فلا تحتاج إلي ضجة ولا إعنات.

يقول الدكتور عبد العظيم المطعني – رحمه الله:- «قد وهبه الله: البيان الواضح والأسلوب الحكيم، يشهد لذلك كل من عاصروه ورسائله إلى جانب ما عمرت به شخصيته من: (أدب النفس – واستقامة السلوك – وفقهه بمقاصد الإسلام – وحفظه للقرآن الكريم والوقوف على أسراره ومعانيه – وروايته للحديث – وإلمامه بعبر التاريخ – وفهمه لسيرة أصحاب الرسول – ومعرفته بمواطن الضعف في الأمة)».

وبهذا قد استكمل الإمام كل مقومات الداعية المؤثر والمصلح المطاع فكان يعرف، إلام يدعو؟ وكيف يدعو؟  ومن يدعو؟  ومتى يدعو؟  بقلب شجاع وسلوك طيب، ولسان فصيح، وحجة ساطعة، فلا غرابة أن يلتف الشباب كله في عزم وثبات حول ذلك المصلح الإمام الشهيد.

ويقول روبير جاكسون:- «كان هذا الرجل خلاب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لايعرف لغة أجنبية، لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة، وأفاضوا في الحديث علي صورة لم تقنعني، ظل الرجل صامتا، حتي إذا بدت الحيرة في وجهي، قال لهم: قولوا له شيئا واحدا:- هل قرأت عن محمد ؟ قلت:- تعم، قال :- هل عرفت ما دعا إليه وصنعه ؟ قلت :- نعم، قال:- هذا هو ما نريده، وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير مما حاول البعض من أنصار البنا أن يصوروه لي، ولعل أبرز هذه النواحي هواتصاله الوثيق بالقرآن حيث كان القرآن طوع بنانه، يستقي من فيضه ويستمد من بحره ويرجع إلى حكمه، فاستخرج منه كنوز الإسلام وأظهرها في السلوك العملي الذي يلمسه الناس، الأمر الذي جعل روبير جاكسون يسميه الرجل القرآني فقال

«لا أجد تسمية أدل على شخصية حسن البنا ودعوته من تسمية – الرجل القرآني، قد يمكن أن تسميه (الرجل الرباني) أو (الرجل المحمدي) أو (الرجل الإسلامي) أو (الرجل الشمولي) ولكن تعبير (الرجل القرآني) أدل على حسن البنا من غيره فهو رجل (قرآني المرجعية – قرآني الغاية – قرآني المنهج – قرآني الثقافة – قرآني الهوى، فالقرآن لحمته وسداه، ومبدؤه ومنتهاه»،(6). وكان شعاره في دعوته: (القرآن دستورنا).

وكان خطيباً ملهماً مفوهاً لا يشق له غبار، ترفع خطاباته أقواماً إلى أعلى عليين، وتهوي بآخرين إلى أسفل سافلين، يهدد فتنفجر الكلمات من بين الضلوع لهيباً، وتتقاذف على شفتيه ناراًويدعو للجهاد فمنذر جيش، ترتج لقوله القاعات من جنباتها، فإذا ما دعا للحب سبيلاً ترقرقت الكلمات من أعماقه ملتاعة هائمة ولهى :-

عسلاً سائغاً وماءً فراتاً ….  وحليباً ذا بهجة مرموراً

فيقول رحمه الله :- «وأعتقد كذلك أن النفس الإنسانية محبة بطبعها ، وأنه لابد لها من جهة تصرف إليها عاطفة حبها،فلم أر أحداً أولى بعاطفة حبي من صديق امتزجت روحه بروحي فأوليته محبتي وآثرته صداقتي».(7) 

وجعل من جملة آماله:- «إسعاد أسرتي وقرابتي، والوفاء لذلك الصديق المحبوب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وإلى أكبر حد تسمح به نفسي ويقدرني الله عليه، وقد أعددت لتحقيق ذلك: معرفة بالجميل، وتقديراً للإحسان و(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)، الرحمن 60.»

4- كان صورة صادقة للفكرة التي نادى بها

حيث كان يوصي إخوانه أن يجعلوا كل شيء في حياتهم وقفاً على دعوتهم، حتى اختلطت نفوسهم بعقيدتهم وعقيدتهم بنفوسهم، فكانوا هم الفكرة، وكانت الفكرة إياهم، وكان هو قدوتهم في ذلك.

يقول الأستاذ البهي الخولي: – «كان الناس قبل حسن البنا يقرءون نصوص الدين ويستمعون لمواعظه فلا يكاد يعلق بنفوسهم شيء منها فلما جاء بعث الراكد، وحرّك الهامد، وأثار الأشواق، وعلق هم العاملين بالملأ الأعلى. لم يأت حسن البنا بعلم جديد، ولم يكن بأعلم العلماء، إنما كان شأنه وشأن غيره أن الغير يعرض الفكرة الإسلامية ما استطاع، أما هو:-

 فكان الفكرة الإسلامية تعرض نفسها حية سافرة.

 تعرض نفسها على لسانه بياناً جزلاً مفصلاً.

 وتعرض نفسها في لهجة صوته خشوعاً وحنيناً وروحاً غريباً تطمئن به القلوب.

 وتعرض نفسها على ملامح وجهه قوة ناطقة بما يشاء.

 وتعرض نفسها في نور عينيه نظرات نافذة ملهمة ، تلهم القلوب والنفوس جميعاً ، فإذا نور جديد يشرق في جوانب النفس ، وحياة جديدة تنشر ميت القلوب ، وإذا بالناس إزاء الإسلام الحي الخالد كأنهم إزاء كلام محدث جديد ، وأمر تربو به نفوسهم لا عهد لهم به.

وذلك أنه – رحمه اللهكان يحب فكرته حبا يفوق الوصف، ولم يكن في صدره شيئ يزحم هذه الدعوة، فكان يعشقها كأنما هي حسناء، لا يجهده السهر، ولا يتعبه السفر، وترك من أجلها :-

 بعثة أتيحت له وكان أحق بها وأهلها لأنه كان أول دفعته.

 وترك الوظيفة ورضي براتب تقاعدي قليل.

 وخلال عشرين سنة هي عمر الدعوة لم يبت في بيته إلا أياما قليلات.

 وانتقص من متعة عيشه، ليكمل بذلك إيمانه وإيمان من يريد هدايتهم.

واختلط بإخوانه، واختلط إخوانه به، ورأوا فيه صورة حية صادقة لما يدعو إليه، فأحبوه من أعماق قلوبهم، فتمثلت دعوته في حياته، وحياته في دعوته.

5- أنه كان شخصية متحركة لا تقف ولا تسكن

«كان أعجب ما فيه صبره على الرحلات في الصعيد ، هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف، حيث تكون بلاد الوجه القبلي في حالة غليان، وفي أحشائها يتنقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلى الأقدام، وهناك تراه غاية في القوة واعتدال المــــــــزاج، لا الشمس اللافحة ولا متاعب الرحلة تؤثر فيه، ولا هو يضيق بها ، وتراه منطلقاً كالسهم، منصوب القامة، يتحدث إلى من حوله ويستمع ويفصل في الأمور».(8) 

 ولقد زار في رحلاته هذه أكثر من أربعة آلاف قرية، وربما زار القرية الواحدة بضع مرات.

 وكان يتحرك كأنه فلك إنساني يدور مع الكواكب، يعمل ويوجه، وينظم وينتج في لحظات ما يقصر عنه غيره في شهور وسنوات

 كان يركض إلى الله حين يمشي العاملون، ويثب إلى الله حين يركض المخلصون، ويطير إلى الله حين يثب المصلحون.

 كان يتأسى بالرسول الأعظم في جهاده الدائم حتى، كان من أوصافه أنه ليست له راحة، فكان الزعيم الحق الذي جلس على التراب، وخالط لأول مرة طبقات الشعب في حياتهم وأحسّ آلامهم ومشاكلهم .

 كان يختزل الحياة اختزالاً ، كأنما يسابق الأفلاك في دورانها، خطواته خطوات العماليق ، وجهاده جهود أمة كاملة لا فرد محدود، كأنه علم أن حياته أقصر من دعوته الشاملة فحرص على أن يكون لدعوته من أسباب القوة، ويحوطها بأعظم ما يستطيع من أسوار، ويجهزها بأعظم قدر من العدة والذخائر، ولما رأى أن مشاكل المجتمع فوق ساعاته المحدودة، وحياته القصيرة، جعل شعاره تلك الكلمة المأثورة :- «الواجبات أكثر من الأوقات».(9) 

ومن ذلك ما حكاه عنه أحد من عاصروه أنه :-

«حضرت معه في ثلاث سنوات ثلاثين كتيبة، وكان يصلي بنا الجمع، ويخطب العيدين، ويقوم بنا التراويح في رمضان، ويعقد بين الإخوان عند زواجهم، ويستقبل مواليدهم، ويسميهم ويدعو لهم ، يتعهد المنقطع، ويتفقد الغائب، ويعود المريض، ويمشي في جنازتهم ، ويحضر كتائبهم، ويبيت في معسكراتهم، لا يتخلف عن اجتماعاتهم إلا لعذر قاهر، يؤثرهم بمودته ومساعدته دائما، وكنا نبادله الحب من أعماق قلوبنا». (10)

وإن رجلاً هذا شأنه لحقيق أن يظهر نجمه ويسطع، وأن تنتصر دعوته وإن ناؤاها أهل الأرض جميعاً، فقد نادى بفكرته ووضحها، ودعا الناس إليها ، فآمنوا بها ، وعملوا على تحقيقها، واجتمعوا عليها، فازدادوا عدداً وازدادت الفكرة بهم ظهوراً حتى بلغت ما بلغته.

وقد تعب من أجلها تطوافا وتجوالا ,حتى تيقن من قول الشاعر :- «إن الكرام قليلون» ، وتحقق من قول الله تعالى:- (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سبأ 13- وتحقق من قول رسول الله : – «الناس كإبل مائة لاتجد فيها راحلة»، وقد اقتفى في دعوته أثر رسول الله في تركيز دعوته في نفوس أصحابه، فيقول – رحمه الله -:-

«ماذا فعل رسول الله في تركيز دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان والعمل، وجمع قلوبهم على الحب والإخاء، فاجتمعت لهم قوة العقيدة إلى قوة الوحدة ،وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لابد أن تظهر كلمتها، وتنتصر دعوتها وإن ناوئها أهل الأرض جميعا، وماذا فعل الدعاة من قبل ومن بعد أكثر من هذا ؟ ينادون بالفكرة، ويوضحونها، ويدعون الناس إليها، فيؤمنون بها، ويعملون لتحقيقها، ويجتمعون عليها، ويزدادون عددا، فتزداد الفكرة بهم ظهورا حتي تبلغ مداها، وتبتلع سواها، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً» (11)

(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، يوسف 21. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

—————————-
(1) (عبقرية عمر، للأستاذ عباس العقاد)
(2) رسالة: هل نحن قوم عمليوم؟ – للإمام حسن البنا.
(3) رسالة: دعوتنا – للإمام البنا
(4) رسالة: المؤتمر الخامس – للإمام البنا
(5) رسالة: إلي أي شيء ندعو الناس؟ للإمام البنا
(6) مذكرات الدكتور القرضاوي..
(7) مذكرات الدعوة والداعية
(8) روبير جاكسون، حسن البنا، الرجل القرآني.
(9) أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، للأستاذ جمعة أمين.
(10) النقط فوق الحروف، للأستاذ أحمد عادل كمال
(11) رسالة: دعوتنا في طور جديد

اترك تعليقا