من يرصد الوضع الحالي بيننا وبين أعدائنا يدركْ بوضوح مدى خسارتنا كمسلمين أمام أعدائنا في ميدان المعركة السياسية، فليس في وطننا الإسلامي العريض بقعة نستطيع أن نقرِّر باطمئنان أن لها إرادةً سياسيةً حرةً، وكثير من الحروب والمعارك تنتهي إذا ما سيطر طرف على الإرادة السياسية للطرف الآخر، إلا أن عدونا لم يكتفِ بهذه الهزيمة السياسية.
ولو رصدنا وضعَنا في الميدان الاقتصادي لوجدنا جلَّ أموال العرب والمسلمين رهينةً في مصارف أعدائنا وبنوكهم، وعالمنا الإسلامي رغم ثروته لا يملك حريةَ القرار الاقتصادي، ومع ذلك فإن عدونا لم يكتفِ بتبعيتنا الاقتصادية فوق تبعيتنا السياسية، وكثير من المعارك والحروب تنتهي إذا ما اطمأنَّ طرف إلى تبعية الآخر له اقتصاديًّا، إلا أن معركتنا مع عدونا لم تنتهِ رغم ذلك، وهو ما زال يعتبر أن هناك ما يستدعي استمرار المعركة معنا.
ولنقُل مِثْل ذلك في ميدان العلوم والتقنية، فضلاً عن مجال القوة العسكرية، كان من المنطقي بعد ذلك كله أن لا يأبه عدونا بنا ولا يستشعر خطرًا من قِبَلنا، بعد أن أنزل بنا كل هذه الهزائم في كل هذه المجالات، لكنه ما زال يكيل لنا الضربات، لعلمه أنه ما زال لنا قوة تخيفه في ميدان من ميادين المعركة لم يهزمنا فيها بعد، ما زال عدونا يردِّد أن الخطر عليه هو الإسلام القادم.. إنه يردِّد ذلك لأنه يعلم أنه لم يكسب المعركة الرئيسة، لم يكسب المعركة على محور الصراع الرئيس أو في ميدانها الحقيقي، فما هذا الميدان؟!
إذن محور الصراع هو ميدان التربية والتكوين، فقد أدرك عدونا أنه فشل حينما زحزح مجتمعاتنا عن المنهج الإسلامي وأرسى بديلاً له من شيوعية أو ديمقراطية أو رأسمالية أو اشتراكية أو علمانية، فما لبث المسلمون إلا وعادوا إلى إسلامهم والدعوة إليه، هنا اعتبر العدو أن تكوين الإنسان المسلم هو الذي يجعله كالإناء، صالحًا لأن يحمل الإسلام حين تتاح له الفرصة، جرَّب عدونا أن يفرغ هذا الإناء من إسلامه، ويملأه بغيره، فما هي إلا سنوات ويعود الإناء ليحملَ الإسلام من جديد، لذلك فالعدو لا يهمه الآن ماذا يملأ الإناء بقدر ما يهمه أن يغير من خصائص هذا الإناء حتى يفسدَه، فلا يصلح أن يحمل إسلامًا يومًا ما، إنه يريد أن يفسد تكوين هذا الإناء وخصائصه حتى إذا صُبَّ فيه الإسلام فإنه لا يمسكه.
لذلك فإن المعركة الحقيقية بيننا وبين أعدائنا – في تقديرهم – هي معركة على التكوين والخصائص، أي أن محور الصراع بيننا وبينهم هو التربية، هم يريدون لنا خصائص وتكوينًا لا يسمحان لنا بشرف حمل الإسلام ونصرته، ونحن نريد أن نحافظ على تكويننا وخصائصنا التي تجعلنا صالحين لأن نحمل الإسلام وننصره يومًا ما.
ولذا فإن التربية هي اختيار أساسي في عملنا، اختيار لا نملك عنه حِوَلاً، فنحن نرجو أن نكون جند الله أصحاب دعوته، ولذلك نقف في مواجهة أهل الباطل أعداء الإسلام، ودخولنا في خضم هذه المعركة يرتكز على وضوح في الرؤية، ولأن المعركة واسعةٌ متعددةُ الميادين، ولأن أعداءنا مسلحون بالعلم والمعرفة والمعلومات فضلاً عن صنوف القوة، وهم كذلك من معتادي الخداع والتمويه، فلا مفر من أن ندرك بوضوح شديد أبعاد المعركة الدائرة بيننا وبينهم، وندرك ميادينها الرئيسة والفرعية، وندرك المواقع الأساسية والجانبية، ثم لا نسمح لهم أن يستدرجونا ليستنفذوا طاقاتنا وقواتنا في معارك جانبية هامشية فيكسبوا المعركة في ساحتها الرئيسة.
وفي هذا الصدد يقول الإمام البنا رحمه الله: «إن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا وتواجه واجبات كتلك التي تواجهنا لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وإن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد والجهد هو التعب والعناء وليس مع الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى» (رسالة هل نحن قوم عمليون).
ولقد حرص الأستاذ البنا على التربية باعتبارها مصنعَ الرجال، وفي هذا يقول: «أعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل، والعمل القوي البغيض لديها الشاق عليها وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها» (رسالة المؤتمر الخامس).
وأكد الأستاذ البنا -رحمه الله- ضرورة التجديد في الوسائل والأساليب بما يتفق وتجدُّد فكر الناس وسلوكهم وبما يتمشى مع المستجدات المحيطة وبما يحقق- عمليًّا- الغاية وفي هذا يقول: «إن لكل عصر طريقًا في الكتابة تتناسب مع أسلوب أهله في الفهم وطريقهم في الدراسة، ولا بد من هذا التجديد تبعًا لتجدد عقول الناس وتغير طرق البحث والتفكير والاستنباط».
وهناك فرق بين توضيح المفاهيم والتزود بالمعارف، وبين التربية عليها وتحويلها إلى سلوكيات واقعية، ولذا فإن التربية على ذلك تحتاج إلى سنوات طويلة وحركة واسعة وأداء عملي سلوكي شاق، والتربية يسبقها تعريف ويتبعها تنفيذ، وفي هذا الصدد يقول الإمام البنا: «وذلك أن مراحل هذه الدعوة ثلاثة:
أولاً: التعريف بنشر الفكرة العامة بين الناس ونظام الدعوة في هذا الطور, نظام الجمعيات الإدارية ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ تارةً، والإرشاد تارةً، وإقامة المنشآت النافعة تارة أخرى، إلى غير ذلك من الوسائل العملية.
ثانيًا: التكوين وهو استخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الدعوة وضم بعضها إلى بعض وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف، ونظام الدعوة في هذه المرحلة صوفي بحت من الناحية الروحية وعسكري بحت من الناحية العلمية، وشعار هاتين الناحيتين دائمًا أمر وطاعة من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج, والدعوة في هذه المرحلة لا يتصل بها إلا من استعد استعدادًا حقيقيًّا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات (كمال الطاعة)».
وفي ذلك يقول الإمام البنا: «أيها الإخوان إنكم فى دور تكوين فلا يلهيكم السراب الخادع عن حسن الاستعداد وكمال التأهب، اصرفوا تسعين جزءًا من المائة من وقتكم لهذا التكوين وانصرفوا فيه لأنفسكم، واجعلوا العشرة أجزاء الباقية لما هو لكم من الشئون حتى يشتدَّ عودكم ويتمَّ استعدادكم وتكملَ أهبتكم، وحينئذ يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين».
ويؤكد الإمام البنا ضرورة تعهد النفس والمدعوين بالتربية والمجاهدة حتى يشتدَّ العود ويكملَ الاستعداد فيقول: «إن معركتنا معركة تربويةٌ»، «إن العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا فجاهدوا أنفسكم».
إن اليقظة الروحية التي تحدثها مرحلة التعريف يجب ألا تُترك لتتلاشى وتخمدَ ولكن يجب أن تُزكَّى وتوجَّه إلى داخل النفس لتعملَ عملَها في الإصلاح والتغيير، ثم صياغة الفرد الذي استجاب للدعوةِ بعد مرحلة التعريف على أساس الدعوة وصبغه بمحتواها وأفكارها وتعاليمها حتى يصبح مؤهلاً لتبعات التنفيذ.
وخلاصة التكوين إيجاد شخصية ربانية تؤثر الخالق على الخلق, والآخرة على الدنيا, وباعث الدين على باعث الهوى.
ثالثًا: التنفيذ
وهو الدائرة الثالثة من دوائر العمل في دعوة الإخوان، ويحدد الإمام البنا طبيعةَ الدعوةِ في هذه المرحلة بقوله : «والدعوة في هذه المرحلة جهادٌ لا هوادةَ فيه، وعملٌ متواصلٌ في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحانٌ وابتلاءٌ، ولا يصبر عليها إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذا الطور إلا كمال الطاعة»
والتنفيذ يقصد به كل جهد يبذل خارج دائرة الذات لصالح الدعوة الإسلامية، ويقصد به كل حركه يومية ذات طابع جهادي لتحقيق هدف مرحلي، ويقصد به ممارسة الجهاد عمليًّا لتحقيق هدف شامل، وعلى هذا يدخل في التنفيذ كلُّ عمل جهادي يومي وكل إعداد لإقامة الدولة الإسلامية، ولذا فإن مشروعنا مرتبط بمهمتنا في الحياة..﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج: 77، 78).
مقومات الجماعة إن أي جماعة تقام وتنشأ لا بد أن يكون لها من المقومات ما يساعد على بنائها بناءً سليمًا وصحيحًا؛ حتى لا تنقضَّ ولا تنهدمَ، وحتى تستطيعَ أن تواجهَ الأحداث والخطوب والأعاصير العاتية، فما بالنا وإن كانت هذه الجماعة إسلاميةً قائمةً على أصولٍ إسلاميةٍ عريقةٍ، وتستمد جذورَها من الجماعة الأولى في عهد سيدنا محمد ﷺ والتي تعتمد على صحة العبادة وسلامة العقيدة، ومن هنا كانت مقومات بناء جماعة الإخوان المسلمين تشمل البناء النفسي بشقَّيه البناء العقائدي والأخلاقي والسلوكي، كما تشمل البناء التنظيمي بروابطه الأساسية. الأُخوَّة، الثقة، الطاعة.
أولاً: البناء النفسي
وهذا البناء من أهم مقومات البناء في صَرح الجماعة؛ لأنه يدق على أوتار العقيدة والأخلاق والسلوك، فلو قدَّر الله أن يقوَّضَ هذا البناء لم يعد هناك ما تقوم عليه الجماعة، وينقسم هذا البناء إلى شقين رئيسَين هما: البناء العقائدي، البناء الأخلاقي والسلوكي.
الشق الأول : البناء العقائدي
يُعتبر البناء العقائدي من أخطر الأمور على الإطلاق في مقومات الجماعة وبنائها، فالإيمان تصديقُ القلب بالله ورسوله التصديق الذي لا يَرِد عليه شكٌّ أو ارتيابٌ.. التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، والذي يثمر الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(15)﴾ (الحجرات)، وللعقيدة آثارٌ حقيقيةٌ تساعد في استقرار وسعادة المجتمع والجماعات ،ومن أهمها ما يلي: – تساعد صاحبَها على الوقوف على نقطة ثابتة، فلا تتزعزع قدماه، ولا تضطرب خطاه. – تظهر آثار العقيدة في البناء النفسي للجماعة في الشدائد والأزمات التي تحتاج رجولةً موصولةً بالله، لا يتطرق إليها وهنٌ ولا ضعفٌ ولا استكانةٌ. – العقيدة هي أساسٌ لكل قول وعمل، وأي بناء يقوم على غيرها فمآلُه إلى انهيارٍ وتصدُّعٍ.. قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109)﴾ (التوبة).
– إن صاحبها يَحيى في سكينة ويعيش هادئَ البال والنفس، راضيَ القلب، مطمئنَ السريرة؛ لأنه يعيش في رعاية الله. – وعقيدة التوحيد هي المصنع الذي يُربَّى فيه الرجال في كل مكان وزمان، والذين يدافعون عن كرامتهم وإسلامهم ويصدقون في قولهم ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم. – إنها فاتحة عهد جديد لكلِّ إنسانٍ سليمِ القلب، كبيرِ العقل، كريمِ الخلق، قال رسول الله ﷺ: «أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».
الشق الثاني : البناء الأخلاقي والسلوكي – إن الأخلاق هي مجموعة من المعاني والصفات المستقرة في النفس، وفي ضوئها وميزانها يحسن الفعل في نظر الإنسان أو يقبح، ومن ثم يقدم عليه أو يجمح عنه. – إن الأخلاق والسلوك هما من أهم مقومات بناء الأفراد والجماعات؛ لما لهما من مكانة عظيمة في الإسلام، إذ يقوم عليهما صلاح الأمم والشعوب. – والمطابقة بين العقيدة والسلوك وبين القول والعمل هي أساس قوة كل جماعة ورصيد كل قدوة فيها، فإذا خالفت بين القول والعمل، ورأى الناس ذلك منها أُصيبوا بالشك فيها وفي دعوتها، وفقد أي أثر لمنهاجها وتأثيرها، وأصبحت أمرًا لا صلةَ له بالقلوب وأعمالاً تؤدَّى لا أثرَ لها في إصلاحٍ أو تربيةٍ أو بناءِ نهضة.
– إن الأخلاق تعتبر أساسًا لتربية الفرد والجماعة، ودستورًا للمجتمع والدولة، وهذه الأسس يجب أن يُربَّى عليها الفرد المسلم حتى يصبحَ لبنةً صالحةً في هذا البناء الإسلامي الكبير، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم عندما ربَّاهم عليها محمد ﷺ، كما يجب أن يُعدَّ الفرد المسلم الإعدادَ السليم، ولا بد أن تتحققَ هذه الصفات في واقع الجماعة المسلمة, ومن هذه الأسس: الشورى، دفع العدوان، والانتصار من الظلم، الأمر بكفِّ الأيدي، والصبر، وضبط النفس، إقرار العدل، والإحسان، وتطهير المجتمع من الفاحشة والظلم، الوفاء بالعهد والمواثيق.
– ومن هنا نجد أهمية العنصر الأخلاقي في مبادئ الإسلام، حيث يعتبر من أصول تكوين الجماعة وبنائها, وكما تبين ضرورة التربية العميقة وحكمة تمسك الإسلام والقيام بها وإصراره على تحقيقها في سلوك المؤمن، وكذلك هناك أخلاق يجب أن يُربَّى عليها الأفراد والجماعة حتى تحافظ على بنائها ومقوماتها، ومنها الصبر والثبات والأمل والبذل والصدق والرحمة والتواضع، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّّرُونَ(90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91)﴾ (النحل).
– وهذه هي الأسس الأخلاقية، وهذا هو معنى البناء الأخلاقي والسلوكي الذي إن اتبعته أية جماعة مهما كانت قام بناؤها عظيمًا شامخًا راسخًا راسيًا، وإن معاول الهدم لن تؤثِّر في هذا الجدار العظيم، ولن تنالَ من هذا البناء الشامخ إلا إذا بعدت هذه الجماعة ببنائِها ومقوماتِها عن هذه الأسس الأخلاقية.
ثانيًا: البناء التنظيمي
وهو عبارة عن مجموعة الروابط التي تربط الأفراد داخل الجماعة قادةً وجنودًا وتحكم سير العمل وتحمي نظام الجماعة من التهدم أو الانهيار وتحفظ قوته وصلابته، ومن أهم مكونات البناء التنظيمي: الأخوة- الثقة- الطاعة.
الأخوة
– هي منحة ربانية يعطيها الله عز وجل للمخلصين من عباده والأصفياء من خلقه, قال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 63).
– وفي ذلك يقول الإمام البنا- رحمه الله -: وأريد بالأخوة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرُّق أخو الكفر، وأول القوة: قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب: سلامة الصدر, وأعلاه: مرتبة الإيثار،﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9). والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره،«وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، «والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا»..﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة:71).
– الأخوة هي قوة إيمانية تورث شعورًا عميقًا بعاطفة صادقة ومحبة وود واحترام، وثقة متبادلة، مع كل مَن تربطنا بهم عقيدة التوحيد ومنهج الإسلام الخالد ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات:10)، ولا يذوق حلاوةَ الإيمان إلا من أُشرب هذه الأخوة، قال ﷺ: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه من سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُقذفَ في النار»، وما أصدق كلمات الإمام موجهًا الإخوان في رسالة بين الأمس واليوم «تحابوا فيما بينكم، واحرصوا كلَّ الحرص على رابطتكم، فهي سر قوتكم، وعماد نجاحكم، واثبتوا حتى يفتحَ الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين».
الثقة – هي شعور قوي ينبعث في الذات الإنسانية، يدفع صاحبه إلى الإيمان بالفكرة إيمانًا عميقًا بلا تردد، وإلى المُضي في العمل بلا تلكؤ، وإلى السعي إلى الغايةِ والهدف بلا قنوطٍ ولا يأس. – هي اطمئنان الجندي إلى القائدِ في كفاءتِه وإخلاصِه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة,﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65) والقائد جزء من الدعوة، ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها, وتغلبها على ما يعترضها من عقبات ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ (محمد: من الآية21).
– ولا شكَّ أن من أخطر الوسائل التي يلجأ إليها أعداء الدعوة أن يفتتوا هذه الدعوة من داخلها؛ حتى لا تواجههم إلا وهي مفرقة ممزقة، وأهم ما يعينه على ذلك فقدان الثقة بين الجند والقائد.. فإن الجنود إذا فقدوا الثقة في قيادتهم اهتزَّ في نفوسهم معنى الطاعة، وإذا فُقدت لم تعد هناك قيادة ولا جماعة، ولا يلزم لكي نولي القائد ثقتنا أن يكون هذا القائد أقوى وأتقى وأعلم وأفصح الناس، فذلك مطلب عسير وإنما يكفينا أن إخوانه اعتبروه أقدرهم على حمل هذه الأمانة الثقيلة فكلفوه بها، فإذا استشعر أحد الأخوة في نفسه موهبةً أو ملكةً لم تكن عند قادته فلتوضع هذه الملكة تحت تصرف القيادة حتى تكون عونًا لقائده ولجماعته.
– والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات، ولهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسَه عدة أسئلة ليتعرف على مدى ثقته بقيادته كما أوصي بذلك الإمام البنا، ومن أمثلة ذلك:
هل هو مستعد لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة والصواب, إذا تعارض ما أمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي؟
هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟
– بالإجابة عن هذه الأمثلة وأشباهها يستطيع الأخ الصادق أن يطمئن على مدى صلته بالقائد, وثقته به, والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63)﴾ (الأنفال)،
ومن هنا وجب التنبيه على بعض الأمور: – الثقة دليل الارتباط الروحي والعاطفي. – إذا اهتزت الثقة فقدت الطاعة، وبالتالي لا قيادة بغير طاعة، ولا جماعة بغير قيادة (إمارة). – إن أعداء الدعوة يركزون على غرس جذور التشكيك وانعدام الثقة بين أفراد الصف, وذلك لانفراط عقد الجماعة وعرقلة سيرها وإضعاف قوتها وعدم تحقيق أهدافها.
الطاعة
ولقد عرَّفها الإمام البنا رحمه الله بقوله: وأريد بالطاعة امتثال الأمر وإنفاذه توًّا في العسر واليسر والمنشط والمكره .
وذلك أن مراحل هذه الدعوة ثلاث :
– التعريف: بنشر الفكرة العامة بين الناس, ونظام الدعوة في هذه المرحلة نظام الجمعيات الإدارية, ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ والإرشاد تارة وإقامة المنشآت النافعة تارة أخرى، ويتصل بالعمل في هذه المرحلة كل مَن أراد من الناس، والطاعة التامة ليست لازمةً في هذه المرحلة بقدر ما يلزم فيها احترام النظم والمبادئ العامة للعمل.
– التكوين: باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة في هذه المرحلة: صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين: (أمر وطاعة) من غير ترددٍ ولا مراجعة ولا شك ولا حرج، والدعوة فيها (خاصة) لا يتصل بها إلا مَن استعد استعدادًا حقيقيًّا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى، كثير التبعات، وأول هذا الاستعداد كمال الطاعة.
– التنفيذ: والدعوة في هذه المرحلة جهادٌ لا هوادةَ معه، وعملٌ متواصلٌ في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، وإن السمع والطاعة لازمتان من لوازم الاجتماع، ومن مقومات بناء الجماعة، وهما العمود الفقري من الإنسان لكل أمة من الأمم، حيث لا يتأتى دفع عدو، وانتصار جيش أو تكوين جماعة إلا إذا كان السمع والطاعة خلقًا متأصلاً في كل فرد من أفراد هذه الجماعة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء).
والجماعة التي تتصدى لإنجاز مهام عظيمة، لا يمكنها تحقيق تلك المهام، ما لم يكن لقيادتها حق الطاعة على المنتمين إليها في غير معصية، وحينما تنتهي الجماعة لرأي بعد الشورى فلا يجوز لصاحب الرأي المخالف أن يتحدث بعد ذلك عن رأيه داخل الصف، حتى لو أثبتت التجربة أن رأيه كان الأصوب فلأن يجتمع الصف على الصواب خيرٌ من أن يفترقَ على الأصوب.
إن هذه المقومات الأساسية هي التي حفظت هذه الجماعة المباركة بفضلٍ من الله عزَّ وجلَّ ورعايته لها في تلك المحن والابتلاءات الشديدة التي تعرَّضت لها على مدار التاريخ.