الحَياةُ عَلَي طَريقِ الدَعْوة– د. محمد حامد عليوة
الحمد لله المتفرد بالجلال، المحمود على كل حال، المعبود بالغدو والآصال، والصلاة والسلام على محمد وصحبه والآل وبعد، فقد أكرمنا ربنا سبحانه وتعالي بنعمة الإيمان، ومنَّ علينا بنعمة الإسلام، وأرسل فينا خير رسول أُرسل، محمد ﷺ، وأنزل لنا خير كتاب أُنزل، وجعلنا خير أُمة أُخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وقد أعزنا الله بالدعوة إليه والعمل لدينه في زمن قل فيه العاملون وكثر فيه القاعدون عن نصرة الدين والدعوة إلى الله بإحسان.
نعمة الدعوة إلى الله تعد فضل من الله على بعض عباده واصطفاء منه سبحانه لهم، رغم أنها واجب على الجميع كل في ميدانه ومجاله، امتثالًا لقوله تعالي: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَأنَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، يوسف 108
ولاشك أن شرفنا وعزنا في الدعوة إلى الله، فقد نقلنا الله بها من دائرة السكون والعجز إلى ميدان الحركة والبذل، ومن حالة اليأس والسلبية إلى آفاق الأمل والإيجابية، ومن ساحة الخمول والهمل إلى ميدان العطاء والعمل، ومن دياجير الأثرة والانعزال إلى أنوار الفداء وضياء الفعال.
فما أعظمها من نعمة، وما أشرفها من رسالة، فقد بارك الله بها الأعمال والأوقات، ورفع بها الشأن والدرجات، كما أعطى بها الأجر وأحسن بها الذكر، من هنا وجب الاعتزاز بها، ودوام العمل على دربها.
ما أروع الحياة في كنف الله إن الحياة الحقيقية ما كانت في كنف الله وفي ظلال طاعته، والعمل لدعوته، والتضحية في سبيله، والسعي لقضاء حاجات عباده، أما من حُرم هذه النعم وعاش بعيدًا عن ربه، وكان منشغلًا بنفسه، ولا يؤدى واجباته نحو دينه ومجتمعه وأمته؛ فهو في عداد الموتى، وإن كان يأكل ويشرب ويمشي بين الناس. قال تعالى:(أَوَمَنْ كَأنَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَأنُوا يَعْمَلُونَ)الأنعام 122. بل إن عباد الله الصالحين العاملين الذين ضحوا من أجل دعوتهم ودينهم تمتد حياتهم بعد موتهم، في الوقت الذي يحيا فيه أناس يأكلون ويشربون ولكن لا أثر لحياتهم فيمن حولهم. والسبب في امتداد حياة المجاهدين العاملين هو ماقدموه مخلصين لله فيه، وما بذلوه يرجون من وراءه الأجر لا الذكر، فيحي الله أعمالهم وتظل آثارهم الطيبة تتحدث عنهم، وتبقي أخلاقهم وأعمالهم ومواقفهم يقتدي بها الناس فيؤجرون بذلك وكأنهم أحياء يعملون الصالحات وينالون الحسنات
ورحم الله الأستاذ أحمد شوقى حين قال:
الناس صنفان موتي في حياتهم .. وآخرون ببطن الأرض أحياء
من أصناف الناس في الحياة: 1- صنف يعيش لنفسه: هو صنف من الناس يولد بميلاده لكنه يموت بموته، قد يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض لكنه طول حياته لاينشغل إلا بنفسه ولايهتم بما يدور حوله، حريصًا على كل شيء يخصه، تجده سعيدًا فرحًا لأن خيرًا عاد عليه، وتراه مهموما حزينا لأن مصابًا الم به. هذا الصنف من الناس – رغم صلاحه – تنقضي حياته وينعدم أثره بمجرد موته، لماذا؟ لأن أثره الإيجابي فيمن حوله محدود، وليس له رصيدًا في قلوب الناس، فلم يشاركهم أحوالهم ولم يحسن التواصل معهم، ولذلك سرعان ما يُنسى، فلا أثر له ولاذكر.
والمسلم الحق مطالب أن يحسن معاملة الناس والتواصل معهم، والتحرك بالخير بينهم، بل مأمور بحسن التعامل مع جميع الخلق حتى مع الحيوانات، الم تدخل امرأة مؤمنة النار في هرة حبستها لا هي اطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللهﷺقال:«عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لاهي أطعمتها وسقتها إذا هي حبستها ولاهي تركتها تأكل من خشاش الأرض»أخرجه الشيخان.
والمسلم الحق هو من تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر بمعني أن يكون لهذه العباده وغيرها أثر في حركته بين الناس وعلاقاته معهم، وإلا قد لاتقبل صلاته وعبادته إذا لم يسقيم سلوكه، يقول رسول اللهﷺفيما بلغ عن ربه سبحانه:«إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى ولم يستطل على خلقى ولم يبت مصرًا على معصيتى وقطع نهاره في ذكرى ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتى، وأستحفظه بملائكتى، أجعل له في الظلمة نورًا وفي الجهالة حلمًا، ومثله في خلقى كمثل الفردوس في الجنة»رواه ابن عباس.
2- صنف يعيش لغيره: هو صنف من الناس لم يُهمل نفس ويهتم بشئون الآخرين، ولكنه مع انشغاله بنفسه اهتم كثيرًا بمن حوله، يتعب من أجلهم، ويبذل من أجل رعايتهم وإصلاحهم، يشاركهم الأفراح والأتراح، ولذلك فهذا الصنف – الصالح المصلح – يولد بميلاده لكنه لايموت بموته، لأن آثار أفعاله وأعماله الصالحة التي أخلص فيها لله بقيت حية بعد موته، فحسن ذكره في العالمين، ويتقدم هذا الصنف من الناس أنبياء الله ورسله ومن سار على نهجهم من المصلحين والدعاة إلى يوم القيامة، فجميع الأنبياء والرسل بعثهم الله من أجل تبليغ دعوة الله إلى الناس، وإرشادهم إلى طريق الهداية والصلاح، فقوبلوا بتعنت من أقوامهم فصبروا على أذاهم من أجل إصلاحهم وإرشادهم وهدايتهم، فمنهم من سُجن من أجل قومه ومنهم من عُذب وشُرد، بل منهم من قُتل وهو يدعو قومه إلى الله.
وعلى هذا الدرب سار صحابة رسول اللهﷺ، فأحسن الله ذكرهم في العالمين، فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه كان قبل إسلامه يرعي بضع غنمات لسيده في البادية، فهو مملوك لسيده مع مايرعي من أغنام، وبالتالي ماذا إن مات وهو يرعي الأغنام؟ هل كنا سنعرفه؟ بل ماهو وزنه في حسابات سيده؟ وما وزنه في تاريخ البشرية إذا مات في هذه الحالة؟ ولكنه بإسلامه وصبره وجهاده وتضحيته في سبيل دعوته خلَّد الله ذكره في العالمين، فتسال الآن ونحن في القرن الخامس عشر الهجري طفلا صغيرًا في إحدى جزر إندونيسيا، هل تعرف بلال بن رباح؟ يقول: نعم! هو مؤذن النبي، وتسال عجوزًا مسلمًا في أدغال إفريقيا، هل تعرف بلال؟ يقول أجل! هو ذاك العبد الحبشي الذي كان يعذبه سيده فيقول: أحدٌ أحدٌ. وتسال طفلة في أحد قرى مصر وتقول لها: هل تعرفين بلال؟ فترد عليك نعم! هو كذا وكذا ..
والسؤال هنا:من الذي خلَّد ذكره وأبقي أثره في العالمين؟ إنه جهاده وتضحيته، إنها حياته التي لم يعيشها لنفسه فقط، بل عاشها لدعوته ودينه ونصرة نبيه. وهذا ما كان عليه صحابة رسول اللهﷺوالتابعين وتابعيهم بإحسان، فكانوا مصابيحًا للهدي في كل زمان ومكان.
وعلى درب العمل لدين الله يسير الدعاة العاملون، فهذا الإمام حسن البناوهو بن الثانية والعشرين من عمره يفكر في أمر دعوته ودينه، ينشغل بحال أمته، ويؤسس لحركة تسعي إلى التمكين لدينه وتحقيق الأستاذيه للإسلام والمسلمين في هذه الحياة(لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، وينذر لذلك حياته فيجوب القري والنجوع والبلدان يدعو للأسلام ويربي الناس عليه حتى إنه قال:«وددت أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه»، فبسبب إخلاصه وجهاده وتضحيته – ولا نزكي على الله أحدا – انتشر الخير في الدنيا مع هذه الحركة المخلصة المباركة، وأصبح رجالها في ربوع الأرض يدعون إلى الإسلام بشموله ووسطيته، ومع هذا الفتح تربي الناس على أفكاره ومنهجه، فأحسن الله ذكره في العاملين.
ورحم اللهالشهيد سيد قطبحين قال:«إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة».
أهل الدعوة يكرهون السكون والعجز: وهكذا يكون الدعاه والعاملون، تراهم يكرهون السكون والعجز، يحرصون على العلاقة بربهم ومنها ينطلقون بين عباده ينشرون الخير بينهم، يفرحون لفرح الناس ويحزنون لحزنهم، أفضل أيامهم يوم أطاعوا الله فيه بصلاة مقبولة، وتضحية مبذولة، وعون مشكور، واقتراب نصر مأمول، وحاجة عبد من عباد الله يقضيها، وراية في ميدان للدعوة يعليها.
يقول الشيخمحمد عبد الله الخطيب: «إن الأخ الصادق يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه، متوهجة في ضميره، تجرى في دمائه، وتنقله من الراحة والدعة إلى الحركة والعمل، وتشغله بها عن نفسه وولده وماله، وهذا هو الأخ المؤمن الذي تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإشارة وفي البسمة التي تختلط بماء الوجه، وهو الأخ الذي ينفذ كلامه إلى قلوب الناس فيحرك عواطفهم إلى ما يريد من أمر الدعوة»مفاهيم تربوية ج 4 ص 58.
يقولالإمام الشافعي – رحمه الله:
إني رأيت وقوف الماء يفسده .. إن ساح طاب وان لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست .. والسهم لولا فراق القوس لم يصب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة .. لملها الناس من عجم ومن عـــرب
ندعو الله أن يجعلنا من عباده الصالحين ومن جنده المخلصين العاملين، وأن يجعلنا من عباده الذين يذكرون بالخير بعد موتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
0 Comments to “الحَياةُ عَلَي طَريقِ الدَعْوة – د. محمد حامد عليوة”
الحمد لله المتفرد بالجلال، المحمود على كل حال، المعبود بالغدو والآصال، والصلاة والسلام على محمد وصحبه والآل وبعد، فقد أكرمنا ربنا سبحانه وتعالي بنعمة الإيمان، ومنَّ علينا بنعمة الإسلام، وأرسل فينا خير رسول أُرسل، محمد ﷺ، وأنزل لنا خير كتاب أُنزل، وجعلنا خير أُمة أُخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وقد أعزنا الله بالدعوة إليه والعمل لدينه في زمن قل فيه العاملون وكثر فيه القاعدون عن نصرة الدين والدعوة إلى الله بإحسان.
zadussaerin
الحَياةُ عَلَي طَريقِ الدَعْوة
الحمد لله المتفرد بالجلال، المحمود على كل حال، المعبود بالغدو والآصال، والصلاة والسلام على محمد وصحبه والآل وبعد، فقد أكرمنا ربنا سبحانه وتعالي بنعمة الإيمان، ومنَّ علينا بنعمة الإسلام، وأرسل فينا خير رسول أُرسل، محمد ﷺ، وأنزل لنا خير كتاب أُنزل، وجعلنا خير أُمة أُخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وقد أعزنا الله بالدعوة إليه والعمل لدينه في زمن قل فيه العاملون وكثر فيه القاعدون عن نصرة الدين والدعوة إلى الله بإحسان.