الرواحل هم فرسان الدعوة الذين لا يترجلون. والأوفياء الصادقون الثابتون الذين لا يتلونون ولا يغدرون. والأبطال والشجعان الذين لا يترددون.
والربانيون: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله. بهم يحفظ الله الدعوة والعمل الإسلامي، هممهم عند الثريا بل أعلى، بواطنهم كظواهرهم بل أحلى، تحبهم بقاع الأرض وتفرح بهم ملائكة السماء.
قال ﷺ: «الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة». والراحلة هي الناقة القوية السريعة السير، لا تجدها إلا قليلة في الإبل، كأن نسبتها، لقلتها، لا تتعدى الواحدة في القطيع.
الرواحل: هم الرجال والأبطال والعلماء والدعاة وصناع الحياة، بل هم لب وروح وجوهر الحركة. والراحلة المفقودة التي تحمل أثقال السائرين إلى الله. إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها. كم من قتيل لإبليس قد أحييوه، وكم من ضال تائه قد هدوه! شعارهم العملي الدائم:
سأظل للإخوان جسرا يعبر .. حتى أوسد في التراب وأقبر
وهم الذين لبوا نداء الدعوة حين استغاثت وهتفت قائلة: «يا ابن الدعوة.. يا صاحب الرسالة.. يا وريث أولي العزم من الرسل، إنها الأمانة الثقيلة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال وحملتها أنت، فعلمت بذلك أنك لا بدَّ أن تكون أقوى من السماوات والأرض والجبال! فهذه الأمانة لن يحملها ضعيف متخاذل، ولا كسول متراخ ولن يصلح لها إلا الجد والقوة، وهذه هي لغة القرآن. الم تسمع:﴿يا يحيى خُذِ الْكِتَأبَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَنَأنًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَأنَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوَلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا﴾، (15:12 سورة مريم)».
اعرف قدر نفسك.. وموضع قدمك. يا مقتفي الأثر الرائع، أثر محمد ﷺ وصحبه، أنت لابس لأمته في معركته مع الباطل أنت خليفته في دعوته. أنت راقي منبره لتعظ الأمة من ورائه. أنت وارث رسالته قم فما يُعهد من صاحب رسالة نوم. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة. وكان هذا النداء الذي تتردَّد أصداؤه بيننا إلى اليوم إيذانا بشحذ العزائم، وتوديعا لأوقات النوم والراحة، والتلفف بأثواب الهجوع، وكان إشعاراً بالجد الذي يصنع الحدث ويرميه في حجر أعدائه ليتفاعلوا معه، لا أن ينتظر كيد العدو ليتفاعل هو معه.
صاحب الرسالة يا دعاة يسبق الحدث لا ينتظره حتى يقع، ويسابق الزمن خوف الفوت، متوثبًا إلى غايته النبيلة وهدفه السامي، وصوته الهادر يبايع نبيه موقِّعاً معه عقد البذل والاستشهاد صائحاً:
نبيّ الهدى قد جفونا الكرى .. وعفنا الشهي من المطعم نهضنا إلى الله نجلو السُرى .. بروعة قرآنه المحكم
أعداء دينك لا ينامون، بل يصبرون ويحتملون في سبيل الباطل ما لا تحتمله أنت في سبيل الحق. كم مضى من عمرك، وماذا قدَّمت فيه لدينك؟ راجع النعم التي اختصَّك الله بها وانظر فيم سخَّرتها؟
هل استحوذَت عليها دنياك أم ادَّخرت منها شيئا لدينك الجريح وقومك المغلوبين؟ اطرح عنك تلبيس إبليس وأعذار المفاليس. واسال نفسك الآن والله مطلع عليك: هل تعمل لدينك وتبذل لدعوتك ما دمت فارغا، فإذا عرفتك الأسواق وصفقات التجارات توارت الدعوة عندك إلى الأولوية العاشرة؟
هل تقدِّم لدعوتك هوامش أوقاتك وفضلة حياتك؟ هل تسعى لمد الدعوة بروافد جديدة كما تسعى لمد راتبك بموارد جديدة؟ هل يؤرِّقك نشر الهداية وتوسيع رقعة الصالحين كما يؤرِّقك السعي على الرزق وتأمين حياة أبنائك المقرَّبين؟
يقول أنموذج الرواحل الملهم الموهوب (حسن البنا): «ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل، والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء. ولهذا وأمثاله نعمل، ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا فنتعزى، ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه».