إن مسؤولية الدعاة تجاه غيرهم يجب ألا تشغلهم عن واجباتهم نحو أنفسهم بالتزكية والرعاية، وإن انشغالهم بإصلاح قومهم – وهذا واجب عليهم – يجب ألا يصرفهم عن رعاية أنفسهم وإصلاح حالهم (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) سورة الشمس
والقرآن الكريم يرشدنا في مواضع عدة إلى ضرورة العمل على إصلاح أنفسنا وتزكيتها من أجل أن نحسن السير على طريق إصلاح غيرنا، فنجده سبحانه ينهانا أن نأمر الناس بشيء بهدف الإصلاح وننسى أنفسنا في هذا الأمر ونحن في ميدان الصلاح، فيقول سبحانه: (أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (سورة البقرة: 44).
إنها ضرورة حتمية أن تتلازم جهود الإصلاح بجهود مضاعفة في باب الصلاح، حتى يستقيم الأمر، ولنا في هذا التعاقب في النزول وترتيب المصحف بين سورتي (المزمل والمدثر) إشارة وتوجيه قرآني، فقد نزلت المزمل أولًا وفيها أمر للرسول ﷺ: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا)، وفيه القيام بحق النفس من الرعاية والتزكية والإصلاح، ثم نزلت بعدها المدثر وفيها أمر آخر للرسول ﷺ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ)، وفيه القيام بحق الإنذار وأداء واجب الدعوة والإصلاح، وكأن صاحب الدعوة ومن يتولى مهمة وواجب الإصلاح يلزمه جهداً وواجبًا تجاه نفسه بالرعاية والتزكية والصلاح.
أيضا من إشارات القرآن الدالة على هذا المعنى والمؤكدة له، نجد في (الآية : 111) من سورة التوبة بعد أن تحدث الله سبحانه عن الذين يبايعون الله ويتاجرون معه بأنفسهم وأمولهم من أجل الجنة، جاءت صفات هؤلاء المبايعين لله في الآية التالية، فيقول الله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (سورة التوبة: 112). وهنا يمكننا الوقوف على معنى يتصل بضرورة زاد الصلاح من أجل السير في طريق الإصلاح، خلاصته ومفاده: «ينبغي أن تكون عبادة المسلم وزاده الإيماني والتعبدي ضعف حركته في الحياة، أو بنسبة إثنين إلى واحد، لآن الآية ذكرت الذين بايعوا الله، فوصفتهم بست أوصاف في الزاد الإيماني والعبادي، وثلاثة أوصاف في الحركة والسلوك.»
من هنا وجب علينا أن نعطي المسئولية نحو أنفسنا حقها من التزكية والرعاية والتعهد والاصلاح، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، ورحم الله الإمام حسن البنا حين قال: «يا أخي: فاقد الشيء لا يُعطيه، والقلب المنقطع الصلة بالله كيف يسير بالخلق إليه؟ والتاجر الذى لا يملك رأس المال من أين يربح؟ والمعلم الذى لا يعرف منهاجه كيف يُدرسه لسواه؟ والعاجز عن قيادة نفسه كيف يقود غيره؟»(1).
وقوله في ضرورة رعاية المرء لنفسه حتى يقدر على سياسة غيره:«ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنتم عما سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولًا». من هنا كان الصلاح أساس الإصلاح، وكانت العبادة طريق القيادة.
الصلاح أساس الإصلاح والتربية تلقي وعطاء، كما أنها زاد وحركة، ولنا في (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)، و(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، أوضح البيان وأصدق الدليل. وعمليًا ربى النبي محمد ﷺ أصحابه فكانوا (رهبانًا بالليل فرسًا بالنهار). وقد أوصى الإمام البنا إخوانه بذلك فقال: «يا أخي: اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار». و هكذا يجب أن نكون، نتزود لنتحرك، وننهل لنفيض، ونمتلك لنعطي، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ومن تحرك كثيرًا مع قلة الزاد سرعان ما يتوقف ويتعطل، وربما أهلك نفسه، وأفسد فيمن حوله.
مع جلسة بن تيمية: كان شيخ الإسلام ابن تيمية يجلس في مصلاه بعد الفجر يقرأ القرآن ويذكر الله حتى ترتفع الشمس فيصلي ويقول: هذه غدوتي، إن لم أفعلها انهارت قوتي. (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ). هكذا يجب أن يكون أصحاب الدعوات، لهم زاد يستمدون منه القوة؛ التي تعينهم على أداء واجب الدعوة، والقيام بمتطلبات التربية وإصلاح الأتباع والرعية.
وقد تعلمنا من أهل الفضل وأصحاب السبق: أن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، وأن ما عند الناس لن تناله إلا بأمر الله ومشيئته، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، فلنحرص أولاً على تقوية وتحسين حالنا مع الله، حتى يقوى ويتحسن حالنا مع خلق الله. فلن ننال حب الناس ورضاهم إلا من خلال حب الله لنا ورضاه عنا، فقلوبنا وقلوب الناس بيده سبحانه. ولن نتبوأ مكانة في قلوب الخلق دون أن يكون لنا مكانة عند الخالق. فلنحرص أولًا على إصلاح ما بيننا وبين الله، يُصلح الله ما بيننا وبين الخلائق كلها.
وفي ضرورة إقبالك على الله وأثره في الناس من حولك، يقول هرم بن حيان: «ما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله عز وجل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم». وقد علق الإمام ابن القيم على ذلك فقال: «ويكفى في الإقبال على الله ثواباَ عاجلًا أن الله سبحانه وتعالى يُقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه، كما أنه يُعرض بقلوبهم عمن أعرض عنه، فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم».(2)
نعم.. إنه الصلاح طريق الإصلاح، وإنها العبادة أساس القيادة، ورحم الله الإمام حسن البنا يوم قال: «كونوا عباداً قبل أن تكونوا قوادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة». إنه الإنقياد لله تعالى الذي يُعين العبد على حُسن سياسة الناس وقيادة أمورهم. (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)) سورة الحج
ولنتأمل قول الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – حين قال: «إن الخطأ أكبر الخطأ، أن تنظم الحياة من حولك، وتترك الفوضى في قلبك».(3) نعم.. إنها قضية محسومة في فقه التغيير والإصلاح، مفادها، أنك لن تستطيع الإصلاح ونفسك تفتقر للصلاح، وأنك حين ترغب في تغيير ما حولك دون أن ترتب ما بداخلك؛ فاعلم أنك تسلك طريق الخطأ الذى لا يُؤدي إلى نتائج، وحتى إن بدت لك ولمن حولك بعض نتائج جهدك فاعلم أنها على حساب نفسك التى أهملت تزكيتها ورعايتها وإصلاحها.
وكلام الأديب الرافعي – رحمه الله – له دلالات كبيرة، وتأكيد واضح على مبدأ (الصلاح أساس الإصلاح). فالانسان لا يمكنه إصلاح الحياة من حوله، وهو صاحب قلب خرب وعقل خرف، لأن فوضى النفس لا يمكنها أن تجعل من صاحبها مؤثراً في محيطه أو مصلحاً لمن حوله. والحمد لله رب العالمين
—————————- (1) من مقال للإمام حسن البنا، بعنوان (سبيل الظفر. عبادة ثم قيادة)، نُشر في جريدة (الإخوان المسلمون) بتاريخ (25 ربيع الأول 1356 هـ، الموافق 4 يونيو 1937م. (2) المجموع القيم من كلام بن القيم (3) وحي القلم، للأديب مصطفى صادق الرافعي. المجلد الثاني.
0 Comments to “الصلاح أساس الإصلاح – د. محمد حامد عليوة”
إن مسئولية الدعاة تجاه غيرهم يجب ألا تشغلهم عن واجباتهم نحو أنفسهم بالتزكية والرعاية، وإن انشغالهم بإصلاح قومهم – وهذا واجب عليهم – يجب ألا يصرفهم عن رعاية أنفسهم وإصلاح حالهم (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) سورة الشمس
zadussaerin
الصلاح أساس الإصلاح
إن مسئولية الدعاة تجاه غيرهم يجب ألا تشغلهم عن واجباتهم نحو أنفسهم بالتزكية والرعاية، وإن انشغالهم بإصلاح قومهم – وهذا واجب عليهم – يجب ألا يصرفهم عن رعاية أنفسهم وإصلاح حالهم (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) سورة الشمس