الصلاح أساس الإصلاح

الصلاح أساس الإصلاحبقلم: أ. جمعة أمين عبد العزيز 

صلاح للنفس ابتداءً:
إن أولى خطوات التغيير هي النفس الإنسانية، فهذه هي الخطوة الأساسية التي بدأ بها رسول الله ﷺ، والتي وجهه القرآن إليها: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ الشمس.

فالفلاح في التزكية، والخيبة والخسران في التدسية؛ ولذلك بيَّن لنا رسول الله ﷺ أن أعدى أعدائنا أنفسنا التي بين جنوبنا، فإذا صلُحت صلح الأمر كله، وإذا فسدت فسد الأمر كله.
ولذلك كان التعامل مع النفوس تغييرًا، ومع القلوب تطهيرًا، ومع العقول صياغةً هي أهم مهام الرسول ﷺ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)﴾ الجمعة.

لهذا طالت مرحلة إصلاح النفس في مكة ليتحقق للمسلم الفلاح؛ لأن النفس الإنسانية لا تنتصر في المعارك الحربية ضد أعداء الإسلام إلا حين تنتصر أولًا وقبل كل شيء في المعارك الشعورية والأخلاقية، بينما الذين تولوا يوم التقى الجمعان في (أحد) ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ آل عمران: من الآية 155.

ومن هنا فإنه لا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي ما لم يقم على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس والهوى لتكون كلمة الله هي العليا، فالجماعة التي تحمل فكرةً وتعمل لرسالة وترغب في تحقيق أهدافها العليا لا بد أن تتوافر فيها عناصر أربعة:
1- وحدة العقيدة.
2- وحدة الهدف والغابة.
3- وحدة الصف فهما وحركة.
4- إيمان لا يتزعزع وثقة في نصر الله.

hqdefault

النبع الصافي:
إن المسلم في عهد رسول الله ﷺ كان القرآن وتعاليم الرسول ﷺ هما النبع الصافي الذي يُستقى منه بالرغم من وجود حضارة الرومان، واليونان، والفرس، والهند، والصين فضلًا عن وجود اليهود والنصاري في قلب الجزيرة العربية.

ويوم أن وجد رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقرأ في صحيفة من صحائف التوراة، وكان ما زال القرآن يتنزل غضًا طريًّا ولم يكتمل التصور الإسلامي بعد؛ لذا غضب رسول الله ﷺ منه، وقال لعمر: «والله لو أن موسى بن عمران بين ظهرانينا ما وسعه إلا أن يتبعني». قال ذلك ﷺ خشية أن تتداخل المفاهيم وتشوه الفكرة وتنحرف الحركة وتزل قدم بعد ثبوتها.

إن المسلم يستمد قوته من إيمانه وعقيدته ويهتدي بهما في الحياة، مُحددًا وجهته على ضوئها، متحليًا بأخلاق هذه العقيدة فيتماسك المجتمع بوحدة المشاعر التي سادت بينهم، والقيم التي تحكمهم والحب الذي يغشاهم؛ لأنه لا يمكن أن يسود التآلف والترابط والمحبة، ولا يتم التوافق الاجتماعي في المجتمع إلا إذا وُجدت الوحدة الأخلاقية، ووجد بين الأفراد اتفاق الوجهة والسلوك وانضباط في الفهم والحركة، وهذا ما ميز المجتمع المسلم عن غيره.

وللذين لا يؤمنون إلا بأقوال الغرب ويتأثرون بها نقول لهم ما قاله (جون فستر دالاس) وزير خارجية أمريكا من عام 1952- 1959م، أسوقه لمَن جعل الغرب قبلته ومنهاجه، ومصدر تلقيه يقول الرجل: «إن هناك شيئًا يسير بشكلٍ خاطئ في أمتنا، وإلا لماذا أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية، لما يجدر بنا أن نأخذ موقفًا دفاعيًّا، وأن يتملكنا الذعر، إن ذلك أمر جديد في تاريخنا، إن الأمرَ لا يتعلق بالماديات فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إنما ينقصنا إيمان قوي فبدونه يكون كل ما لدينا قليلًا، وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، او العلماء مهما كثُرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها، فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية فإن النتائج السيئة تصبح أمرًا حتميًّا. إلى أن يقول: ومتى تحطمت الصلة بين الإيمان والعمل فلن نستطيع بعد ذلك أن ننمي قوة روحية نستطيع نشرها في أنحاء العالم».

نعم: نحن نريد رجالًا لا كما قال دالاس، بل كما علمنا المصطفى ﷺ لهم قلوب تأثرت بالقرآن تأثيرًا جعلها تفيض بالروحانية فيضًا رقق مشاعرها، وأرهف مسامعها فجعلتها ترتجف عند أمر الله، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾ الأنفال.

المسلم يحتاج أولًا إلى قهر نفسه ليمتلكها، ويحسن قيادتها حتى يشعر بأن نفسه التي بين جنبيه ليست له بل هي وديعة يصرفها صاحبها كيف يشاء، ويأخذها أنّى شاء، إنه شعور يولد لديه انتماء لدينه يدفعه للالتزام بمنهج الله وأوامره يفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور.
ويكتمل هذا الصرح الإيماني الشامخ الذي نتمسك به بالأخوة التي وضعت عندنا موضع الركن من البناء ولهذا حديث آخر إن كان في العمر بقية.

ين جوريون عدو الله يقول: «نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، فقط نحن نخشى الإسلام؛ هذا المارد الذي نام طويلًا وبدأ يتململ».

خلاصة القول:
إن أكمل الناس هدايةً وإخلاصًا لدينه أعظمهم جهادًا لنفسه؛ لأن أفرض الجهاد، جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمَنْ جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته. يقول الجنيد في قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: من الآية 69)، قال: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص.
ولا يتمكَّن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلا مَن جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصر عليها نُصر على عدوه، ومن نُصرت عليه نصر عليه عدوه.

والعبد الصالح يستشعر تقصيره دائمًا، وحاجته إلى عون ربه إذا زلَّت قدمه، وهو بالرغم من المحاسبة أولًا بأول فإنه يشعر دائمًا أنه من الخطَّائين، فإذا أحسَّ بخطئه تنبَّهت عوامل الخير في نفسه، فأناب وأسرع إلى التوبة يصل بها أمر الله به أن يوصل، ولقد علم الله من الإنسان ضعفه فيسَّر عليه في جهاده لنفسه وفتح له باب الإنابة؛ ليتوب توبةً نصوحًا ليعيد ترتيب نفسه ويعود إلى ربه مخلصًا له الدين.

فلا تكن من الغافلين:
إن العبد إذا تيقَّظ فحاسب نفسه وتبيَّن له تقصيره وخطؤه؛ ندم، وتاب واستغفر، فمحا الله سيئته، وأنسى جوارحه ما عملت، ومسح آثار معصيته حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب، وصدق المولى إذ يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (هود: من الآية 114).
ولا يزال العبد يراقب نفسه حتى يبلغ درجة الإحسان؛ فيعبد الله كأنه يراه، وليس أضرَّ على النفوس من الغفلة، ولا أضيع للفائدة من التسويف. ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 179).

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدعو ويقول: «اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين»، ورحمةً بالعباد فإن المولى يأمرنا أن نذكره في كل حين فيقول: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205)﴾ (الأعراف: من الآية 205).

فأنت أمام لحظة بالغداة، ولحظة بالعشى، ولحظة بالسحر تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملأ الأعلى، فتظفر بخيرَي الدنيا والآخرة، وأمامك يوم الجمعة وليلتها، وأمامك موسم الطاعات وأيام العبادات، وليالي القربات، فاحرص على أن تكون من الذاكرين لا من الغافلين، ومن العاملين لا العاطلين، واغتنم وقتك، فما إن ينبثق فجر يوم جديد إلا وينادي منادٍ: «يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لن أعود إليك إلى يوم القيامة».

إن يقظة الضمير أو النفس، ودقة الشعور، وحياة الوجدان؛ جعلها الإسلام قوام صلاح النفس، فهي الحارس الذي يُحصي على المسلم خواطره وهواجسه، وألفاظه وكلماته، وأعماله، وتصرفاته؛ لأنه لا يفارقه لحظةً من ليلٍ أو نهار في خلوة أو اجتماع، ويزنه بميزان دقيق، يميز الخير من الشر، ويعلن الجزاء لساعته مسرورًا ومبتهجًا برضى وطمأنينة وراحة وسلامة إذا فكَّر أو قال أو فعل خيرًا، وسعيرًا أو جحيمًا ووخزًا أليمًا ونارًا تلظَّى بين الضلوع والجوانح إذا انحرف عن الطريق أو ضلَّ سواء السبيل.

إنها اليقظة في نفس المؤمن، أصاب أم أخطأ. معرفةً بالله وإحساسًا برقابته؛ ليفوز بجنة الدنيا قبل جنة الآخرة، ولا يحظى بذلك إلا المخلصون لدعوتهم.

—————————————-

اترك تعليقا