العمل والإنتاج وبذل الطاقة

العمل والإنتاج وبذل الطاقة (*)بقلم: الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله

التقينا على طريق الدعوة لأسمى غاية، ولتطبيق أكمل رسالة، ولنقيم صرحًا عظيمًا سيعم خيره البشرية كلها والأجيال التالية من البشرية، ألا وهو دولة الإسلام العالمية إن شاء الله، وهذا يستتبع العمل الدائب وبذل الطاقة للعمل والحركة والإنتاج، ولا يكفي لسالك الطريق الفهم السليم والرؤية الواضحة والالتزام والحرص على وحدة الصف ما لم يصاحب ذلك عمل وايجابية جادة وبناءة.

الإيمان يصدقه العمل الصادق المتوافر فيه إخلاص النية والمطابقة لشرع الله، وكثيرًا ما نرى القرآن ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

إننا نريد أن نبني دولة الإسلام العالمية، والبناء دائما يتسم بالحركة الجادة والعمل المتواصل وبخاصة في مرحلة وضع الأساس التي هي أهم وأشق المراحل.
ولا يتم العمل في البناء ارتجالًا ولكن حسب تخطيط مرسوم ومراحل وتوقيت من ذوي الخبرة. ونحن في هذا نقتدى برسول الله في بناء الدولة الاسلامية الأولى.

ولا بدّ أن تتوحد جهود الأفراد بصورة عمل جماعي منظم، ولا يُتصور أن يتم بناء إذا عمل كل فرد وحده بتوجيه نفسه، فلابد من وجود من يشرف ويوجه الأفراد ليقوم كل بدوره، وعلى الأفراد ضرورة الالتزام بخطة العمل والتحرز من الاجتهادات الفردية الفجة غير المنضبطة مع خط العمل الجماعي.

ومن الأمور المهمة توافر الدافع على العمل عند سالك الطريق بصورة قوية حتى لا يُقصر أو تفتر همته أو يبخل بشئ من طاقته. وهل هناك دافع أقوى مما تشير إليه الآيات الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)) سورة الصف.

ومما يدعو إلى حفز الهمم والمسارعة في عمل الخير؛ العلم بأن الفرصة المتاحة لهذا العمل محدودة وقصيرة، وقد تنتهي في أي لحظة، وإذا انتهت فلن تتكرر، فلا مجال للتكاسل أو الفتور.

يلزم لمن يعمل أن يصطحب الخبرة كي يستطيع أن يتخطى العقبات ولا يصطدم بها ويتوقف ويتعطل الإنتاج، وإذا التبس أمر ولم يتضح له الوجه الصحيح فلا يتردد أن يسأل أهل الذكر دون حرج، فالخطأ في البناء خطير خاصة في الأساس.
ولكي يكون العمل أكثر فاعلية وانتاجًا يلزم أن يكون موافقًا للمرحلة، فلا نكون في مرحلة وضع الأساس ونشغل نفسنا بإعداد مواد الطلاء والخلاف حول لونها، فلو انشغلنا عن الأساس فلن يقوم البناء.
من اللازم في مجال العمل في حقل الدعوة تنظيم الوقت وترتيب الأعمال حسب الأولويات والأهمية، فلا ننشغل بالمهم عن الأهم، ولا بالذى يمكن تأجيله عن الحال الذي لا يحتمل التأجيل.

كما يلزم توزيع الاختصاصات لتوزيع الأعباء وتحديد المسئوليات وحتى لا يحتمل شخص فوق طاقته وتُعطل طاقات آخرين. كما يراعى عدم تداخل الاختصاصات حتى يستطيع كل فرد أداء عمله المنوط به في دقة وإتقان، ولعل خلية النحل مثال طيب لتوزيع الاختصاصات والالتزام بها والإنتاج الوفير.

العمل في حقل الدعوة له مجالاته المختلفة ولكن مع تنوعها بينها ترابط وتداخل أحيانًا، فلابد من تنسيق العمل والتعاون لتيسير العمل ومضاعفة الإنتاج. وكل عمل يُراد إنجازه يلزمه ثلاثة أمور: (خطة العمل، والقائمون على التنفيذ، والمتابعة)، وفقدان أي عنصر من هذه الثلاثة يحول دون تمام العمل كلية أو على الوجه الأكمل.

ولقبول أي عمل عند الله يلزمه أولاً خلوص النية لله، ثم المطابقة لشرع الله، فلنحرص على توافر هذين الشرطين في كل أعمالنا.
وكل فرد على ثغرة يجب أن يقوم بواجبه نحوها دون تفريط حتى لا تؤتى الجماعة من قبله،

ويلزم أن يكون على فقه جيد بطبيعة العمل الذي يقوم به كي لا يُخطئ أو يبدد الوقت والجهد في غير ما يُفيد.
وبناء على ذلك يجب على الأجيال الناشئة أن يستفيدوا التجربة والخبرة ممن سبقوهم على طريق الدعوة، ويبدأوا من حيث وصلوا بدلاً من انفاق الجهود والأوقات في تجارب جديدة، ويعتبروا أنفسهم الامتداد الطبيعي للمسيرة والحركة الاسلامية.

تحقيق القاعدة الصلبة للدولة الاسلامية يكون بإيجاد الفرد المسلم رجل العقيدة، والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، وذلك بأن نصلح أنفسنا للارتقاء بالنوعية، وأن ندعو غيرنا لتكثير هذه النوعية وربط هذه العناصر بالحب والأخوة في الله، وكذلك بإقامة الأسر المسلمة المؤسسة على التقوى من أول يوم، بأن يختار الأخ المسلم الأخت المسلمة المتدينة الواعية، ثم ندعو الناس لكسب الرأي العام لصالح الدعوة، وهذا يستتبع التعرف على الوسائل المحققة لهذه الأهداف المرحلية.

يلزم أن يُهيئ كل أخ أسرته أيضًا للعمل والانتاج في حقل الدعوة ليتحقق بيت الدعوة على طريق الدعوة كدعامة في بناء الدولة الاسلامية المنشودة. ولتنشأ الذرية الصالحة التي يُعز الله بها الإسلام. إن الأخت المسلمة صانعة الرجال ومربية الأجيال، وتُعين رجال الدعوة على القيام بواجباتهم وتشجعهم ولا تُثبطهم.

علينا أن نبذل الجهد في إعداد وتربية أشبال الدعوة، فبعد فترة سيكبرون على استقامة وفهم سليم دون انحراف أو التواء. إن طريق الدعوة طويل، والتخطيط لمدى طويل مطلوب، فلا نقتصر في عملنا على العمل الذي تظهر نتائجه سريعة، ونغفل الأعمال التي تظهر نتائجها بعد فترة كالمشروعات الاقتصادية والتربوية، كالإهتمام بالأشبال كما ذكرنا سابقًا.

كما لا يجب أن نتعجل الثمرة قبل نضجها، ولكن نضع البذرة ونتعهدها حتى تنبت الشجرة، ونرعاها حتى تُثمر الثمرة، ونصبر حتى تنضج الثمرة ونقطفها.

لا تحقرن معروفًا أو عملًا يساعد على الإنتاج وتيسير العمل. «فتبسمك في وجه أخيك صدقة» رواه الترمذي. تنمي روح الحب والتعاون في مجال العمل، وفي ظل الحب تكون البركة والتوفيق والإنتاج. أما إذا نزغ الشيطان فتُنزع البركة ويحدث الفشل.
إننا في عملنا في الدعوة كلنا أجراء عند الله، ولا يعمل أحدنا لحساب شخص أو أشخاص آخرين، ولكي يُقبل عملنا يلزم أن يحب بعضنا بعضًا، وأدنى مراتب هذا الحب في الله؛ سلامة الصدر وأعلاها الإيثار.

على من يسلك طريق الدعوة أن يُسخر كل طاقاته للعمل والإنتاج للدعوة، ويُسخر كل جوارحه وحواسه للدعوة، فليقرأ وليسمع وليتحدث وليمش وليفكر وليكتب ولا يُعطل نعمة أنعم الله عليه بها، بمعنى أن يُقدم كله لا بعضه في سبيل الله.

ما دمت بعت نفسك ومالك لله فحافظ عليهما مما يُتلفهما، واستعملهما فيما يُرضي من اشتراهما سبحانه وتعالى. ونفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر.
واعلم أن أدنى مراتب الشكر على نعم الله أن تستعملها في طاعة الله ولا تستعملها في معصيته، كما أنه من باع نفسه لله ثم بخل بعد ذلك بشيء من ماله أو جهده في سبيل الله؛ يكون ناكثًا في هذا البيع.

يجب أن تُسخر ما منَّ الله به عليك من مواهب معينة لحساب الدعوة والعمل لها، وعليك أن تفكر في كل ما يجلب للدعوة النفع ويدرأ عنها الضر.

إياك وتثبيط المثبطين وتشكيك المشككين، فلن ينفعك منهم أحد، واعلم أن مصلحتك في مواصلة السير والعمل على طريق الدعوة، حتى تلقى الله ثابتًا على الحق غير مبدل ولا مغير، (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23.

عليك أن تثق في الطريق وفي المنهاج، ومصاحبة الأمل الكبير في تأييد الله وتحقيق الآمال، فلا تردد ولا فتور ولو طال الوقت، علينا أن نعمل على الطريق الصحيح وبالأسلوب الصحيح، ولسنا مسئولين عن تحقيق النتائج، وسيحاسبنا الله على العمل لا على النتائج، وليس مجرد العمل ولكن العمل المناسب في الوقت المناسب.
كما أنه في مجال العمل لا بدَّ من وقفات مراجعة وتقويم للعمل، والاستفادة من الأخطاء لتفادى تكرارها ولدرء ما يترتب عليها من أضرار.

إياك يا أخى وما يُحبط الأعمال كالرياء والغرور وحب الظهور والرئاسة وغير ذلك، فإن هذه الصفات من أمراض القلوب القاتلة التي تردى صاحبها المهالك.

واعلم يا أخي قبل ذلك وبعده أن الله غني عنا وعن جهادنا ونحن الفقراء إلى الله، فإن قافلة الدعوة ستسير بنا أو بغيرنا، قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) محمد:38. هذا وقد عودنا الله في هذه الدعوة على مر السنين أن من كان به خير يلحقه الله بها، ومن كان غير ذلك يُريحها الله منه، فهي تنفى خبثها، فنحن لا نُشفق على الجماعة ولا على الصف ولكن نُشفق على أنفسنا وعلى من نحب أن نُحرم بركة هذه الجماعة والسير على طريق الدعوة التي سار عليها رسول الله .

ولا يجوز أن يدفعنا الخوف من الخطأ ألا نعمل، لأن من لا يعمل لا يُخطئ، ولكن نعمل ونستفيد من أي خطأ، كما لا يدفعنا الخوف من الخطأ إلى عدم تقديم الأجيال الناشئة إلى تحمل المسئوليات، ولكن نكلفهم ونرشدهم ونصحح لهم حتى يحتلوا مواقعنا عن خبرة وتجربة حينما نختفي عن الساحة ونلقى الله إن شاء الله.

الوقت هو الحياة والواجبات أكثر من الأوقات، فلنحسن استعماله في أفضل الأعمال، وكل يوم يمر لا يعود، ولا نسمح بفترات لهو أو لغو أو سهو، وإذا مرت فترة من هذه الصور فلتشعر بها وكأنها شوكة في جانبك تُؤلمك.

حاسب نفسك يا أخي أولًا بأول، كما لا تسوف عمل اليوم إلى الغد، فقد يُحال بينك وبين العمل في أي لحظة بالموت، وكن ممن قال الله فيهم، (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، المؤمنون 60، واسأل الله دائمًا التوفيق في العمل، وابدأ باسم الله دائمًا. والحمد لله رب العالمين

——————————
(*) مقال للأستاذ مصطفي مشهور، نُشر في مجلة الدعوة، العدد (59)، جمادى الأولى 1401، مارس 1981م.

اترك تعليقا