ليس هناك شك في أهمية القيادة في العمل الجماعي، وبالأخص في العمل التربوي، والعمل الجماعي لايمكن أن يحقق أهدافه دون قيادة حكيمة، والمؤسسة التي تفتقد للقيادة المتميزة القدوة لا تنجح ولا يستقيم أمرها.
ومصطلح القيادة لم يرد بلفظه ولا بأصله في القرآن الكريم، ولكن على مستوى المعنى نجد عدة آيات قرآنية تتعلق بمعنى القيادة وما يرتبط بها مثل كلمة الإمامة ومشتقاتها: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان-74]. وكلمة الحكم ومشتقاتها، من مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَأبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) [الجاثية-16]. وكلمة الخلافة، من مثل قوله تعالى: (يَا دَأوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) [ص-26].
وقد استعمل القرآن الكريم أيضا مصطلح أمة مرة واحدة بمعنى القيادة: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَأنَ أُمَّةً قَأنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) [النحل-120](4). وكذلك من المصطلحات الدالة على القيادة مصطلح الأسوة، فقد ورد في القرآن في ثلاثة مواضع منسوبا في أولاها إلى الرسول ﷺ: (لَقَدْ كَأنَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب-21]، وورد في ثانيها منوطا بسيدنا إبراهيم عليه السلام وأتباعه: (قَدْ كَأنَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) [الممتحنة-4]، وتم التأكيد في ثالثها على الأسوة بشكل مفتوح: (لَقَدْ كَأنَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الممتحنة-6].
ولأهمية القيادة في الإسلام تنوعت وتعددت الدراسات التأصيلية في هذا الأمر، والتى تُؤصِّل للقيادة من القرآن والسنة، ومنها دراسة هامة للماجستير بعنوان: (مبادئ القيادة التربوية في القرآن الكريم) للباحث عبدالله بن محمد، وقد أورد فيها (19 مبدأ) من مبادئ القيادة جمعها واستخلصها من القرآن الكريم وهي: (الإخلاص، والأصلح فالأصلح، والأمانة، والقوة، والكفاءة، والعدل، والشورى، والاسوة الحسنة، والصبر، والسمع والطاعة في غير معصية، والتوجيه، والنظام، والعلاقات الإنسانية، والشجاعة، والثواب والعقاب، والتعاون، والتنبؤ، والحكمة، والصدق).
الشروط العامة للقيادة في القرآن ونقصد بالشروط العامة التي لا تكون القيادة قيادة بدونها، ولا يصلح القائد أن يكون قائدا إلا إذا تحلى بها، ومنها: 1- حسن القصد وذلك بموجب الوعي بوجود غاية من خلق الإنسان وسعيه في الأرض، تستوجب هذه الغاية أن يكون ذا رسالة محددة المعالم، منوطة به، وأن يعي بأنها أساس محاسبته بين يدي الحق والخلق سواء بسواء. وذلك بموجب قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون-115]. فالقائد الفاعل لا يلغو، لا قولا ولا فعلا، وهو دائم الضجر من الأشياء التي لا تجدي نفعا. ذلك أن القصدية محرك للسعي، ومنتج للعمل: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَأنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) [النجم-39/41]،
2- الشورى: يستحيل على قائد أن يقود مجموعته كبرت أو صغرت في أي اختبار أو مهمة أو تحد كبر أو صغر، دون أن يستعين بالشورى الواسعة والملزمة. وفي هذا الصدد مدح القرآن الكريم المجموعة المسلمة بأنها (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) [الشورى-38]، كما وجه الأمر الصارم للقيادة العليا الإسلامية، النبي الكريم ﷺ: (وَشَأوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران-159]. وقد أحسن القائد تلقي الأمر ومارسه على أوسع نطاق، فقد مارس النبي ﷺ الشورى في كل معاركه، وأولها معركة بدر التي مارس فيها الشورى في أولها في موقفه مع الأنصار، ومارسها في الوسط في موقفه مع الحباب بن المنذر، ومارسها في الأخير في قضية الأسرى. ولم يكتف بتنفيذ الشورى وإنما حث عليها غيره أيضا: «مَا خَأبَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ». (المعجم الأوسط للطبراني).
3- التأمل الخلاق: لا ينجح القائد أبدا في تدبير مهام قيادته إذا كان أسير النظرة السطحية أو العجلى، ولهذا تنصح كل نظريات القيادة، «بالنظر إلى الأشياء المالوفة نظرة غير مالوفة، وبمجاوزة الواقع وحتى المتوقع، والسباحة في عالم المتخيل، بل وتحكيم الخيال أحيانا».(6). وقد نبه القرآن إلى ذلك باستعمال عبارات شهيرة من مثل (أولم ينظروا)، (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وغيرها كثير من مثل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَأوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف-185].
4- المصداقية: أشرنا سابقا إلى علاقة القيادة بالقدوة والأسوة. وتجد هذه العلاقة صداها في كون القائد مضطرا إلى التوجيه، بل وإلى الأمر والنهي، بل وإلى المعاقبة على المخالفة. ولكي ييسر على نفسه المهمة وجب أن يبدأ بنفسه، ويعطي القدوة منها، وينتصف منها أمام أتباعه قبل خصومه. كذلك فعل رب العزة وهو لا يُسال عما يفعل: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا». (حديث قدسي، مسند أحمد بن حنبل)، من أجل هذا لم يستعمل القرآن لفظة شديدة الوطأة، هي لفظة (المقت) إلا مرتين، إحداها في قوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف-3]، وكذلك كان رسول الله ﷺ، صارما مع نفسه إلى درجة الحزم المطلق: «لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». (مسند بن حنبل).
ولعل هذا هو السر في كون القرآن الكريم خلد تلك المحاورة النادرة بين الله عز وجل وعبده إبراهيم، حين بشره بالقيادة، فأرادها إبراهيم خالدة متواترة في عقبه من بعده، فكان الاعتراض على هذه الرغبة، على شكل استثناء لمن يظلم: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَأمًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة-124].
5- الاستيعاب: من السمات القيادية البارزة عند رسول الله ﷺ صفة اللين والحلم والصبر على الأذى ومسايرة المحاور بالنزول عنده إلى مستواه وإلى القضية التي تشغله، حتى لو كانت هذه القضية تافهة في موازين الرسالة. يبين القرآن الكريم بوضوح هذا الرابط في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَأنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَأوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران-159]، إلا أن هذا الدين لا يتنافى مع الحزم وإلا لتحول إلى نقطة ضعف وعنصر نقص تعوق القيادة عن أداء مهمتها الرئيسية التي هي: (فن سوق الناس إلى الهدف)(8). ولهذا كانت تتمة الآية ضرورية في هذا السياق: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران-159].
6- القوة المادية والفكرية: لقد بين القرآن الكريم بوضوح، في حالة طالوت ملك بني إسرائيل أن القوة معيار أساس في التفاضل بين المتنافسين على القيادة السياسية، وربما على غيرها من أنواع القيادات الأخرى. وإذ اكتفى القرآن بذكر أن بني إسرائيل قد وجه إليهم الأمر لطاعة طالوت والتجهز بالجهاد تحت قيادته، بمبرر وحيد وبدهي وهو الاصطفاء الإلهي (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)[البقرة-247]، وإذ اعترض بنو إسرائيل، وأفصحوا عن رغبة جلية في منافسة المرشح الإلهي: (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) [البقرة-247]، فإن الوحي قد أفصح سعيا إلى الحزم عن المعيار الفيصل للاختيار، فإذا به القوة ولا شيء غير القوة: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة-247]، إنها القوة في تجلياتها المادية (الجسم) وتجلياتها الفكرية (العلم). وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.