النَفَسُ الطويل

النَفَسُ الطويلبقلم: الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله

من الدروس المهمة التى وعيناها على طريق الدعوة؛ طول النفس لمن يسلك الطريق. فقد لمسنا أن صاحب النفس القصير يتوقف في الطريق ولا يستطيع مواصلة السير ولا تخطى العقبات، وربما تغير حاله وصار يهاجم الطريق وسالكيه تغطيةً وتبريرًا لموقفه وقصوره عن مواصلة السير.

طريق الدعوة طويل وشاق، إنه يشمل العمر كله وليس جزءًا محددًا منه، فعلى المسلم أن يقوم بكل ما يمليه إسلامه عليه من واجبات وبكل ما يملك من طاقات حتى يلقى الله، ولا يهن ولا يضعف ولا يستكين إزاء ما يصيبه في سبيل الله على طريق الدعوة من آلام ومتاعب، وعليه أن يستعين بالله ولا يعجز، فإنه يستمد العون والثبات والتوفيق من الله، وعليه أن يتسلح بالصبر والمصابرة والمرابطة والاطمئنان والثقة في أن طريق الدعوة هو طريق الفوز والسيادة والعز في الدنيا والنجاة والنعيم والرضوان في الآخرة.

أعباء كثيرة
إن مهام الطريق وأعبائه كثيرة ومتجددة وليست محددة يفرغ منها الأخ ويستريح، هناك بعض الشبه بين طريق الدعوة وسباق المسافات الطويلة التي تتخللها موانع تعوق السير، لهذا لا يصلح الاندفاع والسرعة الشديدة التي تجهد صاحبها فيسقط أو يقعد وسط الطريق قبل أن يصل، كما أن الاندفاع والسرعة الشديدة لا تتوائم مع وجود الموانع والعقبات التي تحتاج إلى الحكمة والتعقل في كيفية تخطيها دون الارتطام بها والسقوط، كما لا يصلح أيضًا البطء الذى يؤخر صاحبه عن إحراز الفوز بالسبق، ولكن الاعتدال في السير يساعد على المواصلة وتجدد الطاقة التي تُعين على تخطي العقبات.

فلا نقصد بطول النفس التراخي وعدم الاهتمام، ولكن الصبر والمثابرة وعدم التبرم والضيق بالأحداث والابتلاء وكيد الأعداء وتشكيك المتشككين وغير ذلك مما هو معروف من سمات طريق الدعوة.

ومما يساعد على تحقيق النفس الطويل لسالك طريق الدعوة استشعاره بعظم المهمة التي هو بصددها واحتياجها إلى زمن طويل، فإننا نريد أن نقيم دولة إسلامية عالمية جديدة عوضًا عن الركام المتخلف من الدولة التي أُسقطت، وإزاحة الركام يحتاج إلى وقت، ووضع الأساس يحتاج إلى وقت وجهد، وبقدر ضخامة البناء يكون عمق ومتانة الأساس. إننا نريد أن نُزيل مفاهيم وتصورات وعادات خاطئة ونُحل محلها مفاهيم الإسلام وتعاليمه وآدابه، إننا نريد أن نبني الأفراد والأسر والمجتمع على أساس من الإسلام.

النفس الطويل

الصعود الجديد
إن الزمن في هذا المجال يُقاس بعمر الدعوات والأمم وليس بعمر الأفراد، وطبيعة الأساس في أي بناء أنه لا يظهر فوق الأرض رغم الوقت والجهد المبذولين فيه، فيضيق صاحب النفس القصير لأنه يُريد أن يرى البناء وقد ارتفع قبل أن يلقى الله، وهنا الخطورة في التسرع والعجلة في وضع الأساس دون إتقان يضمن المتانة والصلابة، فيتعرض البناء إلى الانهيار. إن دولتنا الإسلامية عمرها أربعة عشر قرنًا، وقد أخذ منحناها في الانحدار منذ قرون، وكما أوضحنا في مقال سابق أنه قد تخطى النهاية الصغرى، وبدأ في صعود جديد بفضل الله ثم بتأثير جماعة الإخوان المسلمين بما منَّ الله عليها من فضل وتوفيق.

فلكي يتم قيام دولة إسلامية جديدة ويعلو المنحنى إلى القمة إذا استغرق ذلك قرنًا من الزمان فليس بالكثير على مثل هذه الدولة العالمية، وأحسب أنه قد مضى نصف قرن على بدء الصعود، والأمل كبير في أن يتحقق قيام الدولة المنشودة خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر الهجري إن شاء الله.

إن حب النصر والرغبة في فرح المؤمنين به، والاستمتاع بالعزة والكرامة بعد هذا الهوان كل ذلك تتوق له النفس وتتعجله، ولكن الله لا يعجل لعجلة أحدنا، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)). سورة الرعد

فلا تدفعنا هذه المشاعر والرغبات إلى السرعة أو الاندفاع المُخل، ولكن تدفعنا إلى مضاعفة الجهد وإلى الصبر وتجديد الطاقات لتحقيق المراحل بترتيبها السليم دون تهاون أو تفريط. ولنذكر حينما طلب أحد المسلمين الذين تعرضوا للتعذيب من الرسول ﷺ أن يستنصر لهم الله، فذكر لهم أن من كان قبلهم كانوا يُشقون بالمناشير ولم يصرفهم ذلك عن دينهم، ثم طمأن هؤلاء المعذبين أن الله سيتم هذا الأمر ولكنهم يستعجلون.

الأساس العمل
مما يساعد على طول النفس أن نعلم أن الله سبحانه لن يسألنا عن النتائج ولكن عن العمل، ولذا لا نتعجل لتحقيق النتائج قبل أن نلقى الله، ولكن نعمل بإخلاص واتقان والنتائج على الله، ولا تقصر الهمة ولا تلين العزائم إذا لم تظهر بوادر النصر القريب.

الشباب كله غيرة وحيوية لا ننكر عليه ذلك، فقد مررنا بهذه المرحلة وما زالت آثارها باقية والحمد لله، ولا يُتصور أننا نريد كبت حماس الشباب ولكن نريد حماسًا مبصرًا متجددًا منضبطًا نتحكم فيه ولا يتحكم فينا فيورطنا في ما لا يُفيد الاسلام من مواقف، نريد الحماس العاقل والحيوية المتدفقة المتجددة لا تلك التي تظهر وتختفي، ونريد القوة المبصرة لا الاندفاع الأعمي.

على الشباب المتحمس أن يوجه حماسه أولًا إلى داخل نفسه فيلزمها بتعاليم الإسلام في حزم وجدية، ففترة الشباب هي فترة بناء الشخصية عقيديًا وثقافيًا وبدنيًا، ولا يكون بناء الشخصية قويًا إلا إذا كان على أساس الاسلام.

ضرورة التأني
أما الشباب أصحاب الحماس غير المنضبط، وقصيرو النَفَس، فيندفعون في أعمال هوجاء دون استفادة من خبرة وتجربة من سبقوهم على الطريق، ويظهر الحماس في صورة فورات تطفو ثم تختفي، فهذا ضرره أكبر من نفعه، ولا يصمد طويلًا وقد يتسرب له اليأس إذا لم يرى نتائج سريعة لعمله.
على طريق الدعوة سنتعرض إلى دعوة الناس إلى الله، وهذا يستوجب النفس الطويل حتى نوقظهم من ثباتهم العميق ولا نضيق بهم ولا بأذاهم.

وسيدنا يونس عليه السلام حين ضاق بإعراض قومه وذهب مغاضبًا فكان الدرس بالتقام الحوت له فأناب وقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فنجاه الله وعاد إلى قومه يدعوهم.
وعادة ما نجد صاحب النفس الطويل يتصف بالحلم ولين الجانب، وصاحب النفس القصير يكون جافًا سريع الغضب مما ينفر الناس منه، وصدق الله العظيم وهو يقول عن رسوله المصطفى ﷺ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، آل عمران 159.

صاحب النفس القصير كثيرًا ما يضيق في النقاش وقد يثور على من يخالفه في رأيه، وهذا يُفسد جو الاجتماعات ويُضيع ثمارها وما يُرجى من ورائها من الوصول إلى ما يُفيد الدعوة، وقد يؤدي تكرار ذلك إلى ابتعاده إو إبعاده عن الصف.

صاحب النفس القصير لا يصبر على تشكيك المشككين ونيل المتحاملين، في حين أن ذلك من سمات طريق الدعوة وسنة الله في الدعوات، وقد يدفعه عدم صبره على مقابلة الإساءة بالإساءة، وينشغل مع غيره في مهاترات يضيع فيها الجهد والوقت اللذان هما حق الدعوة، ويخالف بذلك قول الله: (ولاتَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35))، سورة فصلت.

ومن هنا نرى أن الشاب المسلم الشديد الحماس لا يُعتبر حماسه هذا دليلًا على قوة إيمانه، ولكن كثيرًا ما يكون دليلًا على قصر نفسه، وأنه يريد أن يُلقي العبء من على كتفه في أقرب فرصة، ويتصور أن الحماس والاندفاع يحقق له ذلك. ولذلك يلزم الانتباه إلى ذلك، فلا نقدم هذا الصنف لتحمل المسئوليات والأعباء الثقيلة، فهو سريع التأثر سريع التغير، فيُعرض هذه المسئوليات والأعباء إلى الإضرار بها.

أما صاحب النفس الطويل فهو متزن هادئ يزن الأمور برؤية وتعقل، حماسه منضبظ متحكم فيه، وربما كان حماسه لدينه أضعاف حماس قصير النفس، ولكنه لا يظهر للغير، وينفذه في الوقت المناسب وفي العمل المناسب.

الاختبار الصعب
وسأقدم لكم صورة مرت بنا داخل السجن استفدنا منها في مثل هذا الدرس، فعندما كنا في سجن الواحات الخارجة بالصحراء الغربية نقضي مدة الحكم الظالم الذى حُكم علينا به من محاكم الشعب في عام 1954، وبعد انتهاء عامين من الحكم ظهرت فتنة تأييد الظالم جمال عبد الناصر، وأعلنت إدارة السجن بناء على تعليمات من المسئولين أن من يؤيد عبد الناصر ويتخلى عن الجماعة يمكن أن يُفرج عنه دون إتمام مدة الحكم، وذلك بإرسال برقيات تأييد لعبد الناصر في المناسبات المختلفة.

فصار كل أخ يفكر ويقدر ويختار هل يسلك هذا الطريق ويخرج طلبًا للعافية وبرد العافية ويؤثر الأهل والمال على دعوة الله أم يصبر ويحتسب ويتحمل الأذى ولفح المحنة ولا يركن إلى الظلم ويؤيده، ويظل رافعًا راية الدعوة عالية ضد الباطل والفساد حتي يُسلم الراية عالية لمن بعده.

وقد ارتضى بعض الأفراد حسب طاقتهم أن يسلكوا طريق التأييد وذاقوا هوانًا كثيرًا، فأول مجموعة أفرج عنها من المؤيدين كان بعد بدء التأييد بثلاث سنوات كاملة، وفي كل مناسبة يطلب منهم التأييد. الشاهد في هذا الذى أذكره أن بعض الشباب المتحمس حمل حملة شعواء على الذين استجابو للتأييد، ولكن بعد فترة من الوقت إذا بكثير من هؤلاء المتحمسين يخبو حماسه ثم يلجأون إلى التأييد الذى حملوا عليه من قبل، وربما كان اندفاع بعضهم في التأييد بنفس الحماس الذى كانوا عليه في معارضة التأييد.

الدعوة تحتاج الرجال
ويمكن القول أيضًا أن الحكمة والرؤية وطول النفس من سمات الرجولة، والتسرع والاندفاع وقصر النفس من سمات الطفولة وعدم الاكتمال، وطريق الدعوة أحوج ما يكون إلى رجال مؤمنين يقدرون التبعة ويُعالجون المواقف بحكمة، ويتحملون ويثبتون ولا يتغيرون ويتبدلون مع الأحداث، وصدق الله العظيم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب: 23

وفيما كتبه الإمام الشهيد يخاطب به الإخوان المسلمين وخاصة المتحمسين المتعجلين منهم: «إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها، فلست معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجرُ المحسنين، إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة». رسالة المؤتمر الخامس

——————–
(*) مقال للأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله، نشر فى مجلة الدعوة، العدد (56)، صفر 1401 هـ، ديسمبر 1980م.

اترك تعليقا