الهِمّةُ العَاليَة

الهِمّةُ العَاليَة – (مع زاد السائرين)

يشكو كثير من الدعاة اليوم من فقر إنتاجهم وقلة عطائهم الدعوى، حتى المُنتج منهم يشكو من رداءة سلعته وعدم رضاه عنها وكأن لسان حاله يقول جئنا ببضاعة مزجاة! 

يأتي هذا رغم ما آلت إليه الدعوة من تراكم في الخبرات واتساع في الامكانات فأين تكمن المشكلة ؟

المشكلة تكمن أساساً في فتور همة الداعية ورضاه بما يُقدم رافعاً شعار: (ليس في الإمكان أبدع مما كان).

وهذه حالة لم يكن عليها النبي ولا أصحابه ولا شيوخ الدعوة علي مدي العصور والأزمان.

فهذا الفاروق عمر – رضي الله عنه – يحذر: «لا تصغرن همتك، فإني لم أر اقعد بالرجل من سقوط همته).

والهمة هي:  الإرادة الأكيدة في القلب لفعل الشيء وإتمامه. 

 وقد كان قدوة في علو الهمة وطموح الداعية فعلم أصحابه حين الدعاء ألا يقنعوا بما هو دون الفردوس الأعلى في الجنة فقال: «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة – أراه – فوقه عرش الرحمن». رواه البخاري

حتى انتقل هذا العلو إلي أصحابه رضوان الله عليهم فهذا ربيعة بن كعب الاسلمي  – رضي الله عنه – يقول له النبي : «سل» .. فقال: «أسألك مرافقتك في الجنة»!.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟» قلت أسألك أن تعلمني مما علمك الله. فنزع نمرة كانت علي ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلي النمل يدب عليه فحدثني، حتى إذا استوعبت حديثه قال: «اجمعها فصُرها إليك» فأصبحت لا اسقط حرفا مما حدثني». البخاري ومسلم.

وقد تعوذ النبي من كل أشكال العجز وضعف الهمة فقال «اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال».

يقول الإمام حسن البنا – رحمه الله: «ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم والحزن، وضعف الإنتاج بالعجز والكسل، وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل، وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر؟»

هكذا تفعل الهمة العالية بأصحابها، فهي تنقلهم من حال إلي حال، ومن مقام إلي مقام.

والداعية لابد أن يجد الهمة في قلبه كجذوة النار المشتعلة لا يسمح لها أن تفتر أو تنطفئ.

يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي – رحمه الله – مخاطبا الدعاة والمصلحين: «انه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متقدة تكون في ضرامها – علي الأقل – مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجرّه إلي الطبيب أو عندما لا يجد في بيته شيئا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقله وتضطره إلي بذل الجهد والسعي. 

واسمحوا لي أن أقول لكم: إنكم إذا خطوتم علي طريق هذه الدعوة بعاطفة ابرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وأمهاتكم فإنكم لابد أن تبوؤوا بالفشل الذريع !!».

هكذا يجب أن تكون الهمة؛ كالشعلة لا تنطفئ، أو كالطائر يحرص ألا يسقط أو يقع.

يُحكي عن عبدا لرحمن الداخل (صقر قريش)، أنه لما فرَّ من العباسيين متوجهاً إلي الأندلس أُهديت له جارية جميلة فنظر إليها وقال: «إن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما اطلبه ظلمتها وان اشتغلت بها عما اطلبه ظلمت همتي ولا حاجة لي بها الآن، وردها إلي أصحابها».

وصاحب الهمة لا تقف له همة! فإذا فاز بما يطلب لم يقنع حتى يحصل علي ما لا يطلب.

فها هو عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد يقول «إن نفسي تواقة وإنها لم تعط من الدنيا شيئا إلا تاقت إلي ما هو أفضل منه فلما أعطيت مالا أفضل منه في الدنيا تاقت إلي ما هو أفضل منه – يعني الجنة».

والآن ألا تقف مع نفسك أيها الداعية وتنظر أين همتك؟ هل صرفتها إلي الدنيا فهي دنية، أم إلي فردوس ربك وجنات عالية؟. إذا فاسمع للإمام بن القيم – رحمه الله، يفرق بين الهمتين فيقول: «همة متعلقة بالعرش، أم همة حائمة حول الأنتان والحُش». 

هل صرفتها لطلب ما هو مضمون لك من الرزق؟

إذا فاسمع للشيخ عبد القادر الجيلاني يعلمك، وهو ينصح الغلام: «يا غلام؛ لا يكن هَمك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس وما تنكح، وما تسكن وما تجمع،..فكل هذا همُّ النفس والطبع، فأين هم القلب والسر وهو طلب الحق عز وجل ؟! همك ما أهمك.. فليكن همك ربك عز وجل وما عنده. الدنيا لها بدل وهو الآخرة، والخلق لهم بدل وهو الخالق عز وجل، كلما تركت شيئاً من هذا العاجل، أحدثه عوضاً وخيراً منه في الآجل».

وهذا الإمام الشهيد حسن البنا وهو إبن الثانية والعشرين من عمره؛ يفكر في أمر دعوته ودينه، وينشغل بحال أمته، ويؤسس لحركة تسعي الى التمكين لدينه، وتحقيق الأستاذية للاسلام والمسلمين في هذه الحياة (لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، وينذر لذلك حياته ونفسه وكل ما يملك، فتراه يجوب القري والنجوع والبلدان يدعو للإسلام، ويربي الناس عليه، حتي أنه قال يوماً: «وددت أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه».

ومن تحدثوا عن الرجل – رحمه الله – قالوا: لقد كان يجوب الأرض يبحث عن الرجال، فما لانت له قناة، فقد كان ذو همة عالية، وعزمة قوية، لدرجة أنه رغم قصر عمره وكثرة مشاغله زار فى مصر وحدها نحو (ثلاثة آلاف قرية ونجع ومدينة) يدعو إلى الله، ويُصلح فى الأرض.

الأمر الذى حدا بأحد تلامذته وهو فضيلة الشيخ محمد الغزالي – رحمة الله عليه – أن يعبر عن هذه الحالة الفريدة من علو الهمة عن الإمام حسن البنا، فكتب عنه يوماً فى مقال (حسن البنا .. العالم المربي): «لقد جاب الآفاق وهو يُذكر بالله ويُعرف بدينه، وأحسبه قضى تسعة أعشار عمره مسافراً يضرب مناكب الأرض، لا يقصد من حله وترحاله إلا بعث أمة وإحياء تاريخ.»

وفى موضع أخر يكتب الشيخ محمد الغزالي عن أستاذه حسن البنا – رحمهما الله – ويصفه بالإمام العجيب، فيقول: «كان هذا الإمام العجيب يحسب عمره بالدقائق لا بالساعات، وفوق تراب مصر وحدها شقَّ الطريق إلى عشرات المدن وآلاف القرى، فتحدَّث إلى الناس في ثلاثة آلاف قرية على الأقل، ولا أزال أتصوره وهو يزرع الحب بالبسمة الرقيقة، ويصنع اليقين بالإقناع الهادئ، ويتجاوز الخلافات برفض الجدل، وتعليق الناس بالجوهر لا بالمظهر، وتقديم الأهم على المهم، وقبل ذلك وبعده بتقوى الله والإعداد للقائه، وبكلمته التي طالما سمعته يرددها: (إن موتًا فى حق هو عين البقاء) مقدمة كتاب دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين .

واخيراً كلمة: ياطالب المعالي ما نيل المعالي بالأماني، ولكن بعزم ومغالبة ورحم الله من قال:

وما نيل المطالب بالتمني … ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

والله أكبر ولله الحمد

اترك تعليقا