الوحدة وعدم التفرق (1) – بقلم: فضيلة الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله
من الدروس المهمة والمهمة جدًا على طريق الدعوة الحرص على جمع الكلمة ووحدة الصف وعدم التفرق، وهذه من بديهيات العمل الجماعي ومن أوجب واجباته، بالإضافة إلى أن ذلك من السمات الأساسية للمسلمين كأمة واحدة، يدعوهم إسلامهم إلى الوحدة وعدم التفرق كما هو واضح من قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَإذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَأنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران: 103، ثم يقول: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَأخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَأبٌ عَظِيمٌ) آل عمران: 105.
وعندما أثار اليهود العصبية بين الأوس والخزرج بعد إسلامهم، خرج عليهم رسول الله ﷺ غاضبًا، وقال لهم: «أدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ . لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» رواه البخاري. وفي هذا يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَأبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَأنِكُمْ كَافِرِينَ) آل عمران 100. هكذا نجد الأخوة أخت الإيمان والتفرق أخا الكفر.
ووحدة الصف سر القوة والبركة والتوفيق وقبول الأعمال، فيد الله مع الجماعة، ولا سبيل مع الوحدة للشيطان ولا لأعداء الله أن ينفذوا بين صفوف المؤمنين، في حين أن الفرقة تورث الفشل والضعف والهزيمة وعدم التوفيق وإحباط الأعمال، والله تعالى يقول: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّأبِرِينَ) الأنفال: 46، ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَأنُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) الأنعام: 159.
كل فرد يشعر بقوته وقدره في ظل الوحدة داخل كيان الجماعة، فلا يُنظر إليه كفرد ولكن يُنظر إليه وكأنه الجماعة كلها، وذلك بقدر انتظامه في صفها وقوة ارتباطه بها، فإذا ضعف ارتباطه أو انفصل عنها قل قدره وضعفت قوته وضعفت مقاومته للفتن، وصار فريسة سهلة للشيطان ولأعداء الله. «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» رواه أحمد.
وكان إمامنا الشهيد حسن البنا يقول لنا: «إن لم تكونوا بها – أي الجماعة والدعوة – فلن تكونوا بغيرها، وهي إن لم تكن بكم فستكون بغيركم، (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)». رسالة بين الأمس واليوم. في ظل الوحدة ينتظم العمل في الأجهزة المختلفة للجماعة، ويتحقق النماء والإنتاج، وتدعيم الصف وإنجاز الأهداف، وتجاوز مراحل العمل، وتخطى العقبات والخروج من المحن أشد صلابة وتماسكًا واستمساكًا. أما في ظل الفرقة فلا يتحقق شيء من ذلك، وعلى العكس يتمزق الصف، ويُنفق الوقت والجهد في الخلافات والمصالحات وترضية الأشخاص، وكل ذلك على حساب العمل والإنتاج في حقل الدعوة.
الجو المناسب في ظل الوحدة: في ظل الوحدة يجد الفرد المسلم الجو المناسب لبناء شخصيته الإسلامية وإنمائها، ويزداد إيمانا والتزاما بتعاليم الإسلام، ويجد مجالات العمل الصالح الذي ينال من ورائه ثواب الله ورضوانه، ويجد العون والمشاعر الطيبة من إخوانه. أما في ظل الفرقة وفساد ذات البين فيدخل الشيطان، ويصير الجو مساعدًا على نقص الإيمان أو ضياعه، وعلى التقصير والبعد عن الالتزام بتعاليم الإسلام، والحرمان من ثواب الله، والوقوع في الغيبة والبغضاء وغيرها، ويتعرض إلى عذاب الله. وكلنا يعلم تحزير رسول الله ﷺ من فساد ذات البين وأنها الحالقة «إياكم وفساد ذات البين فإنها الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين» رواه البخاري.
الوحدة من الزم الأمور لمن يسلكون طريق الدعوة، وخاصة في فترات المحن، حيث يتعرض العاملون للإسلام إلى ضغوط وفتن متنوعة، وبقدر وحدتهم وتماسكهم بقدر عون الله لهم في مجابهة هذه المحن والخروج منها دون تفرق. أما في ظل الخلاف والفرقة فتزيدهم الضربات والمحن ضعفًا وتباعدًا.
كذلك الوحدة الزم ما تكون عند مواجهة أعداء الله وقتالهم، فإن أي خلخلة في الصف يمكن أن تعطي للعدو ثغرة ينفذ منها ترجح كفة النصر إلى جانبه، وتُعرض المسلمين للهزيمة. وما أروع تأكيد هذا المعنى في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَأنٌ مَّرْصُوصٌ) الصف: 4 الوحدة التي هي سر القوة لا تتحقق إلا في ظل الحب والأخوة في الله؛ والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، والحب يستتبع سلامة الصدور وصفاء القلوب، وهذا خير معين على التعاون والعمل الجماعي المنتج المبارك.
في ظل الوحدة تكون الجماعة جماعة حقًا، قيادة وجندا كل يقدر مسئولياته وواجباته وحقوقه، وما يجب أن يلتزم به دون تداخل ولا تعطيل، وعندئذ يتحقق التقدم والانطلاق. وفي ظل الفرقة لا تصبح الجماعة جماعة؛ بل تُصبح فرقًا وشيعًا غير متعاونة، ولا تتوافر ثقة ولا يكون سمع ولا طاعة ولا التزام ولا تقدم ولا سير، بل يحدث تأخر وانتكاس.
الحب في الله يساعد على الوحدة وإزالة الخلاف، والوحدة تزكى الحب وتحافظ عليه، ونرى الزيادة مطردة، فكلما زاد الحب قويت الوحدة وابتعد التفرق، وكلما قويت الوحدة زاد الحب وبعدت الكراهية. والخلاف يؤدى إلى الفرقة، والفرقة توسع الخلاف وتُزيل الحب وتُوقع البغضاء. والزيادة هنا أيضًا مطردة؛ فكلما زاد الخلاف اشتدت الفرقة، وكلما اشتدت الفرقة زاد الخلاف وضعفت الوحدة.
الإسلام يحرص على جمع الكلمة ووحدة الصف، فالأمة الإسلامية أمة واحدة (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) المؤمنون: 52، إله واحد، ورسول واحد، وكتاب واحد، وقبلة واحدة. فهم جميعًا متكافلون متعاونون، يدفعون الضرر الذي يُصيب أي جزء من أجزاء الأمة الإسلامية، فهم كالجسد الواحد.
وتتأكد هذه الوحدة في المجتمعات المختلفة في البلد الواحد والقرية الواحدة والحي الواحد والعائلة أو الأسرة الواحدة، وذلك بما يحثنا عليه الإسلام من صلاة الجماعة، وتكافل الزكاة وصلة الأرحام وحقوق الوالدين ورابطة الزوجية وحقوق الجوار. وهكذا كل وحدة في ذاتها متماسكة، ثم تلتحم وتتماسك مع مثيلاتها، فيكون بنيان الأمة الإسلامية كله وحدة متماسكة، يواجه الأعداء بقوة دون ضعف أو تمزق.
—————————— انتهى الجزء الأول من مقال الأستاذ مصطفى مشهور، ويتبعه الجزء الثاني والأخير إن شاء الله. المصدر: مقال للأستاذ مصطفى مشهور، بعنوان (الوحدة. وعدم التفرق)، نُشر بمجلة الدعوة الشهرية، العدد 58، فبراير 1981م، القاهرة.