توصيات تربوية منواقع الأحداث (*) بقلم: الأستاذ الدكتور محمد بديع – حفظه الله
من فضل الله علينا وعلى الناس أنه ربنا الكريم الحنان المنان الذي لا يترك عباده ويتولى الصالحين وحتى المخطئين؛ فهو طبيبهم يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، وقد عاشت جماعتنا المباركة منذ نشأتها في كنف الله عز وجل، تتقلب بين نعم فتشكره عليها، وتصبر على ابتلاءاته فيجعلها الكريم منحًا في طيات محن، وكان وما زال وسيظل هذا هو استقبالنا لتربية الله لنا بالأحداث كما قال عز وجل: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (النور: من الآية 11)، وكما قال رسوله ﷺ: «عجبتُ لأمر المؤمن إن أمره كله لهو خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن».
لقد ظهرت ثغرات تحتاج إلى أن نسدها بسرعة وباتقان، فكل واحد منا على ثغرة من ثغور الإسلام، فلا نؤتين من قِبلك، وكذلك أي ثغرة نجدها في الصف يتسلل منها الشيطان، كما رآه الرسول ﷺ رأي العين، وعلَّمنا أن نسدها بجسدنا في الصلاة التي تمنع فيها الحركات أصلًا إلا هذه الحركة الضرورية لملء فراغات الصف، وللمصلي على ذلك الأجر حتى ولو كانت حركة لدعم أخ من آخر الصف حتى لا يصلي وحده، أي أنها حركة فيها تأخر في المكان والمكانة ولكن الأجر مضاعف.
حدث أن تناقلت وسائل الإعلام أخبارًا غير صحيحة، وأحيانًا روايات وتحاليل مغرضة، وأثَّر ذلك في بعض أفراد الصف، وهذا شيء طبيعي ولكن تداعياته خطيرة إذا لم يُعالج ولم تُعالج أسبابه، وهذا هو العلاج الرباني والنبوي الشريف ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12) لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَإذِبُونَ (13)﴾ (النور)، ﴿فتبينوا﴾، وفي قراءة ﴿فتثبتوا﴾، وهذه أوامر نزلت للتنفيذ؛ فلماذا غفلنا عنها وغفلنا عن دوافع هذه الفتن ﴿يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ﴾، والأخطر من ذلك ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ (التوبة: من الآية 47).
نعم إنه في المقابل يجب أن تعرف الأخبار الصحيحة، وإذا حدث خطأ وجب على المخطئ أن يعترف بخطئه فهذه فضيلة (ولهذا حديث آخر بإذن الله)، أما الحديث النبوى الشريف في هذا المقام؛ فيعلمنا أننا يجب أن نحب ما يحبه الله، ونكره ما يكرهه الله «إن الله كره لكم قِيل وقال»، واللافت للنظر أنه عليه الصلاة والسلام حذَّر أولًا من قيل، وهي الكلام مجهول المصدر (صرَّح مصدر رفض ذكر اسمه)، (مصدر وثيق الصلة بالجماعة)، (صرَّحت شخصية قيادية نحتفظ باسمها) قبل أن يحذرنا من قال، وهو الكلام المعلوم المصدر، وكل ذلك من أساليب الدس والوقيعة والتماس العيب للبرآء.
لذا يجب أن نشغل أنفسنا بمعالي الأمور التي يحبها الله ويكره سفاسفها؛ لأن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهكذا فعل رسول الله ﷺ عندما كثر اللغط في الغزوة من حديث الإفك، أمر أصحابه أن يركبوا دوابهم، ثم تقدم بهم للأمام يومًا كاملًا؛ حتى حلَّ عليهم التعب فناموا فجعل العلاج مزيدًا من العمل بعد العمل ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ(7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)﴾ (الشرح)، فلا وقت للكلام والواجبات أكثر من الأوقات «لو أنكم تشترون الكاغد (أدوات الكتابة) للحفظة لسكتم عن كثيرٍ من الكلام»، هذا قول الصادق المصدوق في فضول الكلام، فما بالكم بالمكروه منه فضلًا عن المحرم.
وزاوية ثانية لوحظت في هذه الفترة أيضًا، بعد أن سكن الغبار والدخان الإعلامي المتعمد؛ وهي أن بعضنا لا ينضبط ميزانه، ولا يحصل على درجة النجاح في امتحان التجرد في الحكم على الأشخاص والمواقف بغير هوى (فاللهم ارزقنا أن نعيش مع الحق بغير خلق، وأن نعيش مع الخلق بغير نفس، وأن نعيش مع النفس بغير هوى)، ففي الغضب لا نغضى عن الحسنات وفي الرضا لا نرفع الشخص ولا الموقف فوق ما يستحق، وهذا فيما بيننا وبين بعضنا، وأيضًا فيما بيننا وبين كل الناس.
إخواني وأخواتي وأحبابي في الله. إن قياداتكم بشر، فلا ترفعوهم بحبكم لهم إلى درجة مَن لا يخطئ، وعندما يخطئون لا تنزلوهم إلى درجة أقل من حقهم ومكانتهم؛ لأن هذا – إن حدث – خلل في ميزانكم وحكمكم على الموقفين. وقد علمنا رسول الله ﷺ أن الإمام في الصلاة رغم مكانته العالية عند الله وعند الناس بشر يصيب ويخطئ، وقد وضعت السنة لنا وله ضوابط تصحيح الخط أن نقول له: (سبحان الله) كلمة موجزة؛ لكنها عميقة الأثر في التربية، فمعناها أن المنزه عن الخطأ والنسيان هو الله، أما أنا وأنت فالنسيان والخطأ واردان، وأيضًا درجة الخطأ لها سنة، فإن نسي الإمام التشهد الأوسط ونبهناه فلم يستجب، يأمرنا رسول الله ﷺ أن نتابعه رغم ذلك لأن ذلك أوجب.
أما إذا قام ليأتي بركعة زائدة وأنت متأكد من ذلك يقينًا فاجلس في مكانك ولا تتابعه حتى ينتهي هذا الخطأ الكبير ويعود إلى نقطة الاتفاق؛ وهي التشهد الأخير فتقرأه معه، وتُسلِّم بعده فما زال إمامك وقائدك، فلا يجب أن أضخم الخطأ البسيط ولا أشارك في الخطأ الكبير؛ لأني أعرف الرجال بالحق، ولا أعرف الحق بالرجال، وفي نفس الوقت أحرص على وحدة الصف خلف القائد الصالح البشر الذي يصيب كثيرًا ويخطئ قليلًا.
وتحضرني قصة حادثة طريفة حكاها لي الأخ الكبير الحاج شناوي(*) – رحمه الله وإخوانه جميعًا وأهلنا برحمته الواسعة – عندما كانوا في سجن قنا بعد مضي خمسةَ عشر عامًا في السجون نُقلت لهم مجموعة من شباب 65 من سجن طره، فاستقبلوهم بغاية الحب والترحاب؛ لأن امتداد الدعوة بهم عودة للروح بعد كل هذا الجهاد المرير، فإذا ببعض الشباب يرى أن شرب هؤلاء الإخوة المجاهدين للشاي تفريط ووهن في العزيمة واتباع للشهوة ولو كانت حلالًا، وقرروا هم ألا يشربوا إلا الحلبة، وسموا عنبرهم عنبر الحلبة وإخوانهم عنبر الشاي. فجمعهم الحاج شناوى رحمه الله وقال لهم: «قبل أن تلتقوا بنا رسمتم لنا صورة ملائكية، ورفعتمونا إلى السماء ولا دخلَ لنا في هذا، وعندما عشتم معنا ووجدتمونا بشرًا خسفتم بنا الأرض دون ذنبٍ جنيناه، وكلاهما خللٌ في تقييمكم وميزانكم، فاضبطوا ميزانكم تعتدل أحكامكم».
وتذكروا أيها الأحباب أن من صفات أهل الجنة أن تدعو أجيالهم لبعضها بظهر الغيب ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (10)﴾ (الحشر)، ولا تجعلنا من أهل النار الذين ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ (الأعراف: من الآية 38)، والعياذ بالله. فاللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا غير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين ولا فاتنين ولا مفتونين، وانفع بنا الإسلام والمسلمين والناس أجمعين هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين. واحذروا ما نبهك إليه الإمام البنا رحمه الله «الزلل فيه، والانحراف عنه، والمساومة عليه، والخديعة بغيره».
—————————– (*) نشرت هذه المقالة بتاريخ [4-1-2010]، فى أجواء الأزمة الداخلية التى مرت بها الجماعة، فى الأشهر الأخيرة من عهد فضيلة الأستاذ محمد مهدى عاكف – رحمه الله -، وقد كتبها الدكتور محمد بديع ،عضو مكتب الإرشاد فى هذا الوقت، قبل أن يتولى مهمة المرشد العام.
وقد صاحب هذه الأزمة تضخيم إعلامي لها من قبل نظام مبارك، الأمر الذى ألقى بظلاله على بعض أفراد الصف، فكانت هذه الرسالة ، ضمن مجموعة أخرى من الرسائل التى نزلت من القيادة للصف، بهدف توعيته وتوجيهه ووضوح رؤيته، للتعامل مع مثل هذه الأحداث والظروف الداخلية.
(*) إنه الضابط الطيار محمد علي الشناوي الذي ترك زخرف الحياة الدنيا وآثر الدعوة إلى الله فانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين لتصبح حياته كلها بعد ذلك جهادا في سبيل الله تعالى . وهو واحد من إخوان الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين ، الذين تواترت عليهم المصائب و المحن فما زادهم ذلك إلا إيمانا و تثبيتا … وقوة في الحق وصلابة ، وعزما على المضي في طريق الدعوة بلا استكانة .
ولد الأخ محمد علي الشناوي في 29/ 1/ 1918م وذلك بالمطرية بالدقهلية… ومضت به الحياة حتى أصبح ضابطا بسلاح الطيران .. ولكن ولأنه واحد من أبناء الجماعة فقد وجهت إليه حكومة الظلم والطغيان تهمة تجهيز طائرة ملغمة لقتل جمال عبد الناصر زورا وبهتانا ، كان ذلك في عام 1954م وحكم عليه من قبل ما أسموه بمحكمة الشعب بالإعدام والذي خفف إلى السجن المؤبد .
والمجاهد محمد على الشناوي، هو والد زوجة الدكتور محمد بديع (كاتب هذا المقال)، (الأستاذة سمية محمد على الشناوي)، والتى خطبها من والدها وهما فى السجن قبل الإفراج عليهما.
وفي 11 / 3 / 2007م توفي المجاهد الضابط الطيار الأخ محمد الشناوي عن عمر يناهز 89 عاما قضاها في سبيل الله جهادا ودعوة واعتقالا و صبرا، فما لان ولا استكان ولا بدل ..رحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة و جزاه عما قدم للإسلام و المسلمين خيرا.