حسن البنا رجل نَذَرَ نفسه لإرشاد أمته – د. محمد حامد عليوة

حسن البنا رجل نَذَرَ نفسه لإرشاد أمته  –  د. محمد حامد عليوة

نقف اليوم أمام دُرة من دُرر الإمام حسن البنا، والتي يحدد فيها هدفه ويُجلي بها طريقه من أول يوم، وهذا شأن كل الدعاة والمصلحين، فمن سلك طريق الإصلاح والتوجيه والإرشاد لا بدَّ أن يعرف ماذا يريد، ويعرف سبيله لما يريد، هكذا كان الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى.

واليوم نعرض (موضوع الإنشاء) الذي كتبه الإمام حسن البنا في امتحان التخرج من دار العلوم عام 1927، والذى حدد فيه أعظم آماله بعد التخرج ووسائل تحقيقها. وبعد استعراض (موضوع الإنشاء)، سنقف مع بعض الدروس والفوائد التربوية والدعوية منه.

موضوع الإنشاء
أورد الإمام حسن البنا في مذكرات الدعوة والداعية مايلي:
ومن الموضوعات التي أتحفنا بها – أستاذنا الشيخ أحمد يوسف نجاتي – بمناسبة آخر العام الدراسي، وكان بالنسبة لي ولفرقتي الامتحان النهائي 1927 ميلادية، هذا الموضوع: (إشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها) وقد أجبت عنه بهذا الموضوع:
«أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي تري سعادتها في سعادة الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم، وذود المكروه عنهم، وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحاً وغنيمة، والجهاد في الحق والهداية – على توعر طريقهما، وما فيه من مصاعب ومتاعب – راحة ولذة، وتنفذ إلى أعماق القلوب فتشعر بأدوائها، وتتغلغل في مظاهر المجتمع، فتتعرف ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم، وما يزيد في هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرة، لا يحددها إلى ذلك إلا شعور بالرحمة لبني الإنسان، وعطف عليهم، ورغبة شريفة في خيرهم، فتحاول أن تبرئ هذه القلوب المريضة، وتشرح تلك الصدور الحرجة، وتسر هاته النفوس المنقبضة، لا تحسب ساعة أسعد من تلك التي تنقذ فيه مخلوقا من الشقاء الأبدي أو المادي، وترشده إلى طريق الاستقامة والسعادة.

وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله، قاصر ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره، من أسرته وأمته وبني جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره، وعلى هذه العقيدة سلكت سبيل المعلمين، لأني أراهم نوراً ساطعاً يستنير به الجمع الكثير ويجري في هذا الجم الغفير، وإن كان كنور الشمعة التي تضىء للناس باحتراقها.

وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه. والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين، لكل خواصه ومميزاته، يسلك أيهما شاء:
أولهما: طريق التصوف الصادق، الذي يتلخص في الإخلاص والعمل، وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم. وهو أقرب وأسلم.
والثاني: طريق التعليم والإرشاد، الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس، ودرس أحوالهم، وغشيان مجامعهم ووصف العلاج الناجع لعللهم، وهذه أشرف عند الله وأعظم، ندب إليه القرآن العظيم، ونادي بفضله الرسول الكريم.

وقد رجحت الثاني – بعد أن نهجت الأول – لتعدد نفعه، وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين على المتعلم، وأجملهما لمن فقه شيئًا (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

وأعتقد أن قومي – بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها، والمؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم، وبتأثير المدنية الغربية، والشبه الأوروبية، والفلسفة المادية، والتقليد الفرنجي – بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامي كتابهم، ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلما وجهلا، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعاليمه الحقيقية السمحة، بحُجُب من الأوهام يحسر دونها البصر، وتقف أمامها الفكر، فوقع العوام في ظلمة الجهالة، وتاه الشباب والمتعلمون في بيداء حيرة وشك، أورثا العقيدة فسادًا، وبدل الإيمان إلحادًا.

وأعتقد كذلك أن النفس الإنسانية محبة بطبعها، وأنه لا بد من جهة تصرف إليها عاطفة حبها، فلم أر أحدًا أولي بعاطفة حبي من صديق امتزجت روحه بروحي، فأوليته محبتي، وآثرته بصداقتي.
كل ذلك أعتقده عقيدة تأصلت في نفسي جذوتها، وطالت فروعها، وإخضرت أوراقها، وما بقي إلا أن تثمر، فكان أعظم آمإلي بعد اتمام حياتي الدراسية أملان:
خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، والوفاء لذلك الصديق المحبوب، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإلى أكبر حد تسمح به حالتي، ويقدرني الله عليه.
عام: وهو أن أكون مرشدًا معلمًا، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخري بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.

وقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل، وتقديرًا للإحسان و(هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)؟
ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية: (الثبات والتضحية) وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقًا يزري به أو يشينه، ومن الوسائل العملية: درساً طويلاً، سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية، وتعرفًا بالذين يعتنقون هذا المبدأ، ويعطفون على أهله، وجسمًا تعود الخشونه على ضآلته، وألف المشقة على نحافته، ونفسًا بعتها لله صفقة رابحة، وتجارة بمشيئته منجية، راجيًا منه قبولها، سائله إتمامها، ولكليهما عرفانًا بالواجب وعونا من الله سبحانه، أقرؤه في قوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَأمَكُمْ)، ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله على نفسي، وأُشهد عليه أُستاذي، في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيه أَجْرًا عَظِيمًاِ)

 وقفات تربوية ودعوية مع موضوع الإنشاء:
1- إن المرء ليتعجب أشد العجب من شاب يافع في مقتبل عمره، يحمل هم أمته ودينه وبنى قومه، ويفكر لهما ويعقد الآمال من أجلهما، في الوقت الذي يفكر فيه أمثاله من المقبلين على الحياة العملية، أين يعملون؟ وكم يتقاضون؟ وأين يسكنون؟ ومتى يتزوجون؟ إلى آخر الأسئلة والآمال التي تملأ على أمثاله عقولهم وقلوبهم.

2- أن رجل الدعوة لا بدَّ أن يعيش واقع مجتمعه، وحال أمته، وأن يحدد ما طرأ عليهما من تحولات وما اعتراهما من أمراض، سواء في ميادين العقيدة والعبادة أو الأخلاق والسلوك، وحتى ميادين الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة، وهذا واضح من كلام الإمام حسن البنا حين قال: «وأعتقد أن قومي بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامي كتابهم، ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلما وجهلا، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعإليمه الحقيقية السمحة، بحُجُب من الأوهام يحسر دونها البصر، وتقف أمامها الفكر، فوقع العوام في ظلمة الجهالة، وتاه الشباب والمتعلمون في بيداء حيرة وشك، أورثا العقيدة فسادًا، وبدل الإيمان إلحادًا».

وهو توصيف دقيق لحالة المجتمع وواقع الأمة. ولكن رجل الدعوة لا يقف عند مرحلة (التشخيص ومعرفة الداء)، فلابد أن يُتبعها ويُواكبها بجهود كبيرة وتضحيات عظيمة في (الإصلاح والعلاج)، وهذا ما بيّنه الإمام البنا.

3- وضوح الغاية على طريق الدعوة من الأمور المهمة والمحفزة على استمرار السير وتجاوز الصعاب، ولغياب الغاية وضبابية الرؤية على الطريق عواقبه الوخيمة وآثاره الجسيمة، وقد حدد الإمام البنا غايته من أول يوم، وهي (رضا الله تبارك وتعالى)، حيث قال: «وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه».

4- أن يُصَدر الإمام البنا عباراته في موضوع الإنشاء بكلمة (أعتقد)، فهو أمر يلفت النظر ويوجه الانتباه، وأتصور – والله أعلم – أنها مشيئة الله سبحانه وتعالى التي أجرت على فكره وقلمه فخط بيده هذه الكلمة التي فيها من معاني الإلزام للنفس والوفاء بالعهد ما فيها، وهي معاني فريدة تتجاوز معاني البلاغة والإنشاء التي يهيم حولها من في نفس موقفه ساعة الاختبار الدراسي النهائي. إنه توفيق الله لهذا الشاب المؤمن صاحب الرسالة، وكأنه يُهيئ لمهمة عظيمة تجلت عظمتها ولاح نورها في آفاق الدنيا فيما بعد.

5- أن موضوع الإنشاء تضمن مجموعة هامة من الحقائق والحكم التي ربما غابت عن كثير من الناس، سواء في زمن الإمام البنا أو في هذا العصر، أبرزها:
أولًا: أن خير النفوس هي النفوس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الآخرين والسعي في حوائجهم، وبذل الجهد من أجل نفعهم و إرشادهم.
ثانيًا: أن طريق إسعاد الناس وإرشادهم وإصلاح شئونهم رغم وعورته وكثرت متاعبه ومصاعبة إلا أن فيه من اللذة والمتعة والراحة ما فيه، لا يشعر بها إلا المصلحون العاملون.
ثالثًا: أن العمل والجهد الذي يقتصر نفعه على صاحبة هو عمل قاصر ضئيل، وأن خير الأعمال وأعظمها ما اسفاد منها أصحابها وانتفع بها الآخرين، وهي صفة أكد عليها الإمام البنا فيما بعد حين قال: (نافعًا لغيره).
رابعًا: أن المعلم مربي صاحب رسالة، وليس موظف يُلقي الدرس ويتقاضى الأجر، فهو في مدرسته يُعلم العلم ويٌزكي النفس ويغرس القيم ويُعدل السلوك، وخارج مدرسته عنصر فاعل نافع في مجتمعه وبين الناس. وبذلك يسلك طريق الأنبياء والمصلحين، وفي الحديث: «إنما بُعثت معلما».
خامسًا: أن مخالطة الناس، وغشيان مجامعهم، ودراسة أحوالهم ووصف العلاج الناجع لعللهم، أكثر نفعا وأعظم فضلا، وأشرف عند الله، وهذا طريق الأنبياء والمصلحين رغم مافيه من أذى ومصاعب.

6- أن طريق الإصلاح والارشاد لا بدَّ له من عُدة، وقد جعل الإمام البنا (التضحية والثبات) مما يعتد به أصحاب الدعوات، واعتبرهما مما يلزم كل مصلح، لأن طريق الدعوة شاق وطويل، تكثر عقباته وتتعدد منحنياته ومنزلقاته، تحفه المكاره وتحيط به المزالق، ولكن عاقبته الفوز والسعادة وبالتالى وجب على سالكيه التسلح بالتضحية والثبات، فيقول عنهما – أي الثبات والتضحية – الإمام البنا: «ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقًا يزري به أو يشينه». ولذلك فيما بعد جعلهما من أركان البيعة التي يبايع عليها المصلحون العاملون.

7- أن أصحاب الدعوات، لا تقبل منهم دعوتهم فتات أوقاتهم، أو بقايا جهودهم، ولكنهم مجاهدون عاملون، وبدعوتهم منشغلون، باعوا أنفسهم لربهم صفقة رابحة وتجارة بمشيئته منجية، يحرصون على دعوتهم، ويحيون بها ولها. ومما أوصى به الإمام البنا إخوانه في هذا الجانب: «أيها الإخـوان: أوصيكم كذلك بأن تثبتوا على هذه الدعوة، وتذكروها دائماً، وتؤدوا حقها من وقتكم بالاجتماع الدائم، ومن مالكم بالاشتراك المناسب، ومن جهودكم بالعمل المتواصل، ومن عواطفكم بالحب المتبادل، وألا يصرفكم عنها صارف من كسل أو قعود أو ريب أو شكوك أو يأس أو توجس أو وعيد، فهي دعوة الله ظاهرة بتأييده، مرعية بتوفيقه، واصلة إلى أهدافها بنصره، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ (التوبة:32). ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ (الروم: 60)».

8- أن أهل الإصلاح والتغيير والنهضة لا يستقيم أمرهم أو تٌثمر جهودهم وهم منعزلون منفصلون عن أقوامهم وواقع مجتمعاتهم، والمصلح شخص منفتح، مبادر، يغشى مجامع الناس، يُعايش آلامهم وآمالهم، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، فلا يمكن لجهود الإصلاح أن تُثمر في أجواء العزلة والانفصال عن واقع من هم محل الدعوة والإصلاح. وبالتالي من روجوا لأفكار فساد المجتمعات وجاهليتها وضرورة هجرها، لم تأتى جهودهم بنتيجة، وأين أفكارهم هذه الآن؟ لقد عفا عليها الزمن وهجرها الناس، لأنها أفكار واهية لا أصل لها ولا سند على طريق الدعوة والإصلاح.

ولنتأمل كيف كان حال الداعية المربي المصلح حسن البنا بين إخوانه ومحبيه: يحكى (الأستاذ أحمد عادل كمال) أحد رجالات الدعوة الذين عاصروا وعايشوا الإمام حسن البنا فيقول عنه: «حضرت معه في ثلاث سنوات ثلاثين كتيبة، وكان يصلي بنا الجمع، ويخطب العيدين، ويقوم بنا التراويح في رمضان، ويعقد بين الإخوان عند زواجهم، ويستقبل مواليدهم، ويسميهم ويدعو لهم، يتعهد المنقطع، ويتفقد الغائب، ويعود المريض، ويمشي في جنازتهم، ويحضر كتائبهم، ويبيت في معسكراتهم، لا يتخلف عن اجتماعاتهم إلا لعذر قاهر، يؤثرهم بمودته ومساعدته دائما، وكنا نبادله الحب من أعماق قلوبنا».

وفي الختام: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يستخدمنا في العمل لدينه وخدمة دعوته وأوليائه، وأن يفيض علينا من فضله، وأن يُدخلنا حظيرة قدسه، ويخلع علينا جلابيب أنسه. وأن يجزى الإمام الشهيد حسن البنا عن دعوته ودينه وإخوانه خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين

اترك تعليقا