دعوة تسامت فوق المطامع والأهواء – بقلم: د. محمد حامد عليوة
مما تميزت به دعوة الحق أنها دعوة بريئة نزيهة، لا يحتويها ذو جاه أو سلطان، ولا يشتريها ذو مال أو أطيان، فهي بعيدة كل البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان. ولهذا ظلت وستظل بعيدة عن التطويع والاحتواء.
يتحدث الإمام حسن البنا عن سموّ الدعوة وعزتها، فيقول: «فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس، ولا تأتي هي أحدًا، وتستغني عن غيرها، وهى جماع كل الخير، وما عداها لا يسلم عن النقص. إذًا فاقبلوا على شأنكم ولا تساوموا على منهاجكم، واعرضوه على الناس في عزة وقوة، فمن مد لكم يده على أساسه، فأهلًا ومرحبًا في وضح الصبح وفلق الفجر وضوء النهار؛ أخ لكم يعمل معكم ويؤمن إيمانكم، وينفذ تعاليمكم، ومن أبى فسوف يأتي الله بقوم يُحبهم ويُحبونه». (1)
نعم .. هي دعوة عِزة وقوة، وإباء وعطاء، لأنها دعوة الإسلام الشامل والمنهج الرباني الكامل التى جاء بها رسول الله ﷺ، وبالتالي فهي أحق أن يأتيها الناس، ليسعدوا فيها بخيريّ الدنيا والآخرة، وهي الغنية عن غيرها من الدعوات والهيئات.
وهي كذلك دعوة بريئة نزيهة من الأهواء الشخصية والمنافع الذاتية، فلا مكان فيها لصاحب هوى، ولا يصلح لها إلا من يضحي من أجلها ويبذل في سبيلها، الذي التحق بها ليُعطي لا ليأخذ، ويبذل ولا ينتظر مكانة أو منزلة، ولكنه الأجر الجزيل والثواب الجميل من الله الجليل.
أما مريض القلب معلول الغاية مستور المطامع مجروح الماضي، فلا يصلح لهذه الدعوة البريئة النزيهة، وإن وجد فيها ولا يرغب في العدول عن هذا الهوى والانحراف، فلا بد معه من وقفة جادة، قالها الإمام البنّا بكل وضوح: «فأخرجوه من بينكم، فإنه حاجز للرحمة حائل دون التوفيق».
ولقد تعرض الإمام حسن البنا بشكل واضح لمعنى (براءة الدعوة ونزاهتها من المطامع والأهواء)، فذكر – رحمه الله: «ونحب مع هذا أن يعلم قومنا – وكل المسلمين قومنا – أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت فى نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قُدماً فى الطريق التى رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف 108».(2)
إننا مجاهدون بأموالنا جاء مبعوث من السفارة الإنجليزية إلى دار المركز العام وقابل الإمام الشهيد حسن البنا وقال له: «إن الإمبراطورية من خططها مساعدة الجمعيات الدينية والإجتماعية، وهي تقدر جهودكم ونفقاتكم، لذلك فهي تعرض عليكم خدماتها بدون مقابل وقد قدمنا مساعدات لجمعية كذا وكذا، ولفلان وفلان، وهذا شيك بعشرة آلاف جنيه معاونة للجماعة، فتبسم الإمام الشهيد وقال: «إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجًا إلى هذه الآلاف».
فأخذ المبعوث يزيد في المبلغ والإمام الشهيد يرفض، وكان بعض الإخوة الذين شهدوا هذا الموقف يتعجبون من رفض الإمام البنّا ويتهامسون: «لم لا نأخذ المال ونستعين به عليهم؟!». فكان جواب الإمام الشهيد: «إن اليد التي تمتد لا تستطيع أن ترتد، واليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب، إننا مجاهدون بأموالنا لا بأموال غيرنا، وبأنفسنا لا بأرواح غيرنا».
وقد رُويَ أن المبعوث البريطاني الذى عرض المال على الإمام حسن البنّا، قد تعجب كثيراً لهذا الموقف، وقد تحدث يوماً في حوار له مع إحدى الصحف البريطانية بعد عودته لبلاده، فقال: «إن المال الذى يسيل له لُعاب الناس، عُرض على الإخوان المسلمين في القاهرة، فأسال لُعابهم، لا ليأخذوه ولكن ليبصقوا عليه!!».
نعم.. هذا معلم من أهم معالم هذه الدعوة الربانية الخالصة، أنها دعوة مبدأ، لا يبتزها أحد ولا يطوعها أحد مهما علا قدره، أو أغرى عرضه. وهو الأمر الذى أكد عليه بوضوح حين قال: «إن دعوة الإخوان المسلمين دعوة مبدأ».
ومن جوانب البراءة والنزاهة والسمو في هذه الدعوة، أنها لا ترتبط بأشخاص مهما علا قدرهم، و ذاع صوتهم، فهي تدور مع الحق حيث دار.
دققوا النظر فى شعاراتها ومبادئها الخالدة (الله غايتنا – الرسول قدوتنا – القرآن دستورنا – الجهاد سبيلنا – الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا) هل ترون فيها شخصاً أو قائداً أو مسئولاً أو مرشداً أو مؤسساً أو سابقاً أو لاحقا؟! لن تجدوا. وإليكم هذا الموقف العملي من الإمام حسن البنّا في مؤتمر الطلاب.
لا هتاف بالأشخاص في مؤتمر الطلاب الذي انعقد بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة عام 1938م، خطب الإمام الشهيد حسن البنّا، فتحمس أحد الإخوة من الطلاب فهتف بحياة حسن البنا، قائلاً: «يحيا الإمام حسن البنّا» – وبرغم عدم استجابة الحاضرين لهذا الهتاف وترديدهم خلف هذا الشاب المتحمس – إلا أن الأستاذ المرشد لم يمرر هذا الموقف وأراد أن يُعطي درساً ويُرسي مبدأ ويُعلي قيمة، فوقف صامتًا برهة ولم يواصل كلمته في المؤتمر، فاتجهت إليه الأنظار في تطلع، ثم بدأ حديثه الذى ظهر فيه قدر من الغضب، فقال: «أيها الإخوان، إن اليوم الذي يهتف في دعوتنا بأشخاص لن يكون ولن يأتي أبدًا، إن دعوتنا إسلامية ربانية قامت على عقيدة التوحيد، فلن تحيد عنها. أيها الإخوان، لا تنسوا في غمرة الحماس الأصول التي آمنا بها، وهتفنا بها: (الرسول قدوتنا).﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾ الأحزاب».
خلاصة القول: إن دعوة ربانية خالدة، صنعت رجالاً يَحيَوّنَ برسالة خالدة، ويَسعَوّن إلى غاية سامية، فضلاً عن رفاق صدق ودُعاة حق يأخذون بأيدينا على دربها إلى كل خير وبر؛ لهي دعوة عظيمة تستحق منَّا التضحية والفداء والبذل والعطاء والتجرد والوفاء؛ في سبيل نُصرتها والحفاظ على شجرتها الطيبة، لتبقى دائماً وارفة الظلال كثيرة الثمار، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولن تضيع في سبيل فكرتنا تضحية.
والحمد لله رب العالمين
——————- (1) مذكرات الدعوة والداعية. للإمام حسن البنّا (2) رسالة (دعوتنا) للإمام حسن البنا.