رسالة وضوح الرؤية على طريق الدعوة (الجزء 3)

رسالة وضوح الرؤية على طريق الدعوة (الجزء 3)

(5) جوهر الرسالة

لما كان ميدان المعركة الآن هو الهوية: هو الخصائص والتكوين والصبغة الإسلامية (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) وعدونا لا يسعى فقط لطمس الهوية الإسلامية وإزالة صبغة الله بل لتكريس ذلك؛ بإفساد تكوين الإنسان المسلم حتى لا يصلح أن يحمل إسلاماً يوماً ما، فمن ثم كان جوهر رسالتنا الآن هو:

الحفاظ على الصبغة والهوية الإسلامية للمجتمع، وتأصيل جوانبها واستكمال أركانها، هذا الجوهر يقتضي تغيير الواقع بالتكوين والتربية والوعظ والإرشاد، وبالعمل على استمرار الصحوة الإسلامية وتعميقها وتوسيعها وتفعيلها، وبتكريس بقاء الإسلام مرجعاً حقيقياً للمجتمع رجالاً ونساءً، أفراداً ومؤسسات.

أما الهوية
فقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية تغلغلت في الضمائر والمشاعر ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب واندمجت مصر بكليتها في الإسلام عقيدته ولغته وحضارته ودافعت عنه وذادت عن حياضه وردت عنه عدية المعتدين وجاهدت في سبيله ما وسعها الجهاد بمالها ودم أبنائها.

هذه الهوية الإسلامية لا تقف عند حدود المتدينين بالإسلام في العالم الإسلامي، وإنما تشمل كذلك الأقليات غير المسلمة، التي انصهرت قومياً وحضارياً ووطنياً مع الأغلبية المسلمة،فإذا كانت الهوية الإسلامية تمثل بالنسبة للمسلم: عقيدة وشريعة، وقيماً وحضارة، وقومية ووطنية، وثقافة وتاريخاً وتراثاً، فإنها تمثل بالنسبة لمواطنيها من الأقليات غير المسلمة: حضارة، وقومية، ووطنية، وقيماً، وثقافة، وتاريخاً، وتراثاً في الفكر وفي القانون بنفس القدر الذي تمثله بالنسبة للمواطنين المسلمين في هذه الجوانب سواء بسواء.

أما الصحوة
فهي تلك اليقظة التي جعلت شبابنا يعي ذاته، ويتعرف طريقه بعد أن أخفق كل تجمع على غير الإسلام، يقظة جعلته يسقط الشعارات والأفكار والمبادئ جميعها التي عجزت أن تقدم ما يقدمه الإسلام، تلك اليقظة التي ولدت تيارًا متدفقًا متحركًا مساره الإسلام ووجهته الإسلام ويستمد طاقته من الإيمان، تلك الصحوة التي ما زالت تكسب كل يوم عناصر جديدة من أفراد شعبنا المسلم الطيب، لأنها صحوة لا تدعي احتكار الإسلام لأفرادها من دون الناس وإن سبق أفرادها أشقاءهم في التعرف على واجبهم الإسلامي فتحركوا لأدائه.

صحوة عبرت عن نفسها في تيار متواضع لكنه أعز من الشم الرواسي لأنه يستمد العزة من الله القوي العزيز، صحوة عبرت عن نفسها في تيار محدود ولكنه أوسع من حدود هذه الأقطار جميعاً لأن الإسلام دين العالمين، صحوة عبرت عن نفسها في تيار بدون منافع شخصية خال من المطامع والأهواء ولكنه يورث أفراده السيادة في الدنيا والجنة في الآخرة، هذه هي الصحوة ، علينا توسيعها لتضم كل الناس من العوام إلى الصفوة، وعلينا تعميقها لتصبغ كل مظاهر الحياة، وعلينا تفعيلها لتكون هي المحرك لفعل الخير ونفع الناس (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) إنها صحوة في سبيل الله ولن يستطيع أن يصدها بشر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). الأنفال : 36

أما المرجعية
فلابد لكل مجتمع من مرجعية، مرجعية على شكل قواعد حاكمة يرجع إليها لتضبط تصريف شئونه، وهذه القواعد المرجعية لا يصح أن تتصادم مع تلك القواعد التي تحكم القلوب والمشاعر في ذات المجتمع؛ لكي لا تحدث ازدواجية أو ثنائية في المعايير تتكسر عليها كل موجات الإصلاح، والمرجعية الغربية المهيمنة على العالم حاليًا مادية علمانية تدعي أن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، وهي تفسر الكون والحياة الإنسانية والاجتماع البشري تفسيرًا ماديًا ووضعيًا وعلمانيًا، وهي في ذلك تصادم ما يحكم قلوبنا ومشاعرنا لذلك فلنا المرجعية الإسلامية؛ تلك المرجعية التي تحدد قرار الفرد رجلًا كان أو امرأة، وهي التي تحكم اختيار الجماعات أو المؤسسات حين تصرف شئونها، إنها استجابة فعلية وعملية وليست مجرد مرجعية فكرية نظرية، إنها ضبط للقرار والتصرف ليرضي الله عنه.

لنا مرجعية إسلامية تجمع ما بين (الوحي) ومعارفه وبين (الطبيعة) وعلومها، وتحقق وحدة توجيه التصور والتصرف، فلا ازدواجية ولا ثنائية، وهي لا تصادم عقائد الأقلية غير المسلمة لأنها الوحيدة التي تقبل التعددية منذ أن قبلت زواج المسلم من الكتابية في بيت واحد، ثم أنها لا تتعارض مع مقتضيات تشريعية لهذه الأقلية التي اعتنت عقيدتها فقط بمملكة السماء فلم تتناقض في الأرض مع أية مرجعية تشريعية تصرف شئون الدنيا، ثم أنها سبيل لا مندوحة عنها لمريد الإصلاح في المسلمين، الذين أشربت أنفسهم الانقياد إلى الدين حتى صار طبعاً فيها.

فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذراً غير صالح للتربة التي أودعها فيها فلا ينبت، ويضيع تعبه ويخفق سعيه، ويضل ضلال من قال: إن السبيل إلى النهضة واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب، فنذهب مذهبهم في الحكم، ونسير سيرتهم في الإدارة ونسلك طريقهم في التشريع، وهذه المقولة كفيلة بترك المسلمين نهب لتعدد المرجعيات وتصارع المتناقضات وتذبذب الاختيارات وهدم الدين، وهي مؤدية إلى حرمان الأمة من كل فرص النهوض بل إلى إماتة الأمة ودفنها إذ أعرضت عما يحييها ويقيمها (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال 24.

(6) منهج التغيير

أحد المكونات الأساسية لوضوح الرؤية: وضوح منهج التغيير ولابد من أن تكون هناك قناعة بصلاحية المتهج المختار وتقيده بالضوابط والالتزامات الشرعية.

حقاً إن التغيير المنشود تغيير عميق، فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح حياة القلوب؛ صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعرنريد الفرد المسلم والبيت المسلم والشعب المسلم ولكنا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة تجر ورائها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ” فسيادة قيم الإسلام وشريعته في المجتمع ينبغي أن تكون حقيقة وجوهراً وليست فقط مظهراً أو شعاراً وحراسة ذلك لن تكون فقط مهمة أفراد من المجتمع ولا حتى مؤسسة حاكمة من مؤسساته؛ لكنها تحتاج لجهود المؤسسات الخاصة والعامة الموجودة فيه.

هذا التغيير العميق أمر دين، لذلك فلا ينبغي أن يتم جبراً ولا قسراً بل يجب أن يكون عن إرادة واختيار؛ فلا يعتبر مجرد تبديل الحكومة بأخرى إسلامية تغييراً ولا تمكيناً، ولكن يجب أن يكون ذلك مستنداً إلى قناعة واختيار الناس، وهذا أمر يفرض الجذرية على منهج التغيير المختار ويلزمه التدرج.

والتغيير الجذري يختلف عن التغيير الفوقي؛ لأنه يحدث عن طريق إيجاد قناعة لدى وحدات المجتمع بضرورة الحل السلمي لمشكلاتنا تحت راية الإسلام، وهو جذري لا فوقي لأنه يبدأ من أفراد المجتمع ومؤسساته. «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم»، جذري لأنه ينطلق من داخل مؤسسات المجتمع وبها، وليس على أنقاضها، وهو يبدأ من الوصول للأفراد والنفاذ إلى المؤسسات ولا يبدأ بامتلاك السلطة لفرض التغيير، في هذا التغيير الجذري نندمج في مؤسسات المجتمع فنكسب تأييدها ونستفيد من فاعليتها ونحرم أعداء تطبيق الإسلام من استغلالها ضد تطبيق الإسلام، ونكسب كثيراً من مهارات إدارة دولة الإسلام المنشودة إنه تغيير جذري ذو مدخل شعبي وآخر مؤسسي إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

وهو التغيير المتدرج، «فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، «فمن أراد أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقطف زهرة قبل أوانها فخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها». لذلك نحن «نلجم نزوات العواطف بنظرات العقول، ونلزم الخيال صدق الحقيقة والواقع، ولا نصادم نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن نغالبها ونستخدمها ونحول تيارها ونستعين ببعضها على بعض».

ولأنه تغيير متدرج لا فوري فليست الوسيلة إليه القوة فالدعوة الحقة إنما تخاطب الروح أولاً، وتناجي القلوب وتطرق مغاليق النفوس، ومحال أن تثبت بالعصا أو أن تصل إليها على سنا الأسنة والسهام.

لقد احتفظت القيادة العليا للحركة الإسلامية دائماً بمفتاح التدرج منذ فجر الإسلام، فبدأت بقوة العقيدة والإيمان ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، ثم قررت القيادة الإسلامية العليا بنفسها تعميق قوة الوحدة والترابط بقرارها التاريخي بالهجرة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ثم جاء إذن القيادة العليا نفسها باستعمال قوة الساعد لأول مرة بعدما صار للمسلمين دولة نواة في المدينة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) الحج 39

إنها قيادة حكيمة لا تستدرج بحماس زائف، لأنها تعلم أن أشد الناس حماسةً واندفاعاً وتهوراً، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمةً عندما يجد الجد وتقع الواقعة، فالاندفاع والتهور والحماسة غالباً ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيق التكاليف، لا عن الشجاعة واحتمالٍ وإصرارٍ، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال، قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار، حتى إذا وجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا وأشق مما تصوروا، فكانوا أول الصف جزعاً ونكوصاً وانهياراً على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ويعدون للأمر عدته ، (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)، النساء 77، إنها قيادة واعية تدرك أن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها.

والتغيير الذي ننشده تغيير عالمي تحددت ملامحه منذ فجر هذه الدعوة.. وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، وظهرت نواتها العالمية الأولى في اجتماع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يظهر في قوله : «أنا سابق العرب، وبلال سابق الحبش، وصهيب سابق الروم، وسلمان منا آل البيت» فهي عالمية منذ نشأتها لا تحدها الأقطار ولا تحاصرها التخوم.

لهذا نريد: «أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية وأضاعت وحدته المطامع الأوربية، ولهذا لا نعترف بهذه التقسيمات السياسية، ولا نسلم بهذه الاتفاقات الدولية، التي تجعل من الوطن الإسلامي دويلات ضعيفة ممزقة يسهل ابتلاعها على الغاصبين، ولا نسكت على هضم حرية هذه الشعوب واستبداد غيرها بها فكل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله وطننا الكبير، الذي نسعى لتحريره وإنقاذه وخلاصه وضم أجزائه بعضها إلى بعض ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خفاقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حيناً من الدهر ودوى فيها صوت المؤذن بالتكبير والتهليل ليقل القاصرون الجبناء أن هذا خيال عريق ووهم استولى على هؤلاء الناس، ذلك هو الضعف الذي لا نعرفه ولا يعرفه الإسلام، ذلك هو الوهن الذي قذف في قلوب هذه الأمة فمكن لأعدائها فيها، وذلك هو خراب القلب من الإيمان وهو على سقوط المسلمين لقد أعددنا لذلك إيماناً لا يتزعزع وعملاً لا يتوقف وثقة بالله لا تضعف وأرواحاً أسعد أيامها يوم تلقى الله شهيدة في سبيله».

نريد التغيير المنشود مستقراً مستمراً لا مهتزاً ولا وقتياً، لذلك يجب علينا تربية وقيادة وتوظيف قوى التغيير كلها وتنسيق تعاونها يتحقق لها الاقتناع وقبول أعباء التغيير، فللتغيير طلائع رائدة قائدة ندعو الله أن نكون منهم وله قواه الأساسية الفاعلة وهي شعبنا وله قواه المساندة الداعمة وهي “مؤسسات المجتمع” وله قواه المؤيدة المناصرة وهم الإسلاميون في العالم.

كلها تعزف معزوفة واحدة، معزوفة تقول: «تغيير عميق لا سطحي، جذري لا فوقي، متدرج لا فوري، عالمي لا قطري، مستقر لا وقتي، نقود الأمة إليه ولا ننوب عنها فيه».

—————-
انتهى الجزء الثالث ويتبعه الجزء الرابع من رسالة وضوح الرؤية إن شاء الله تعالى.

اترك تعليقا