رُهبان الليل فُرسان النهار – د. محمد حامد عليوة

رُهبان الليل فُرسان النهار  –  د. محمد حامد عليوة

توقفت اليوم أمام تعبير صادق بليغ للإمام حسن البنا – رحمه الله -، كتبه في إحدى مقالاته القيّمة التي وردت تحت عنوان: (سبيل الظفر..عبادة ثم قيادة)، والمقال فيه من معاني الربانية والعبودية ما فيه، ومن بين ما لفت نظري وجذب قلبي قوله: «يا أخي: اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار».(1)

الله.. الله.. على قيام الليل حين ينام الناس وتقوم أنت بين يدي رب الناس الذى لا يغفل ولا ينام، تناجيه وتتضرع إليه. ولاحظوا قوله: (تغترف) ففيها من الشوق والرغبة للتزود ما فيها، تتزود من المعين الصافي، معين الليل وزاد الخوافي.

ودققوا الفكر في قوله: (ما توزعه على إخوانك بالنهار)، إنها الآثار والثمار، حين قبل عليك إخوانك لإقبالك على ربك، يتزودون منك من رصيدك الذى تزودته في ليلك. فمن أقبل على الله بقلبه؛ أقبل الله بقلوب العباد عليه.

وفيه أيضاً: أن العباد في الليل هم الدعاة المصلحون في النهار، يتزودون ليستطيعوا الحركة بالدعوة والإصلاح في مجتمعاتهم، وهكذا يربينا القرآن ونحن نقرأ سورة المزمل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)). فهذا السبح الطويل في النهار لابد له من قيام للتزود في الليل.

وفيه أيضا: أن رهبان الليل من الدعاة والمصلحين، لا ينقطعون عن محيطهم ولا ينسون إخوانهم ومريدهم، فتراهم يوزعون من خير ليلهم على إخوانه ومحيطهم. بل لا ينسون إخوانهم ومحيطهم في قيامهم فتراهم يذكرونهم بالدعاء في الليل والدعوة والإصلاح في النهار.

والربانيون على طريق الدعوة من شمائلهم وأحوالهم أنهم: (رهبانًا بالليل فرسانًا بالنهار)، يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا وقليلًا ما يهجعون، وفي النّهار ينطلقون بدعوتهم دُعاةً مُصلحين، وفي سبيل ربهم أسودًا مجاهدين.
وهم بذلك يمتثلون لأوامر ربهم، فيجمعون بين أمرين متلازمين: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ و﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾.

ولقد سُئل الإمام حسن البنا يوماً عن سر إقبال الناس عليه والإنصات إليه، وعن حب إخوانه له والتفافهم حوله، فأجاب: «كنت أدعوهم بالنهار وأدعو لهم بالليل».

صدى الليل في النهار
نعم.. إن ليل المسلم له صدى في نهاره، فمن تزود من معين الليل، كان ذلك له خير معين في حركته ودأبه في النهار. ومن كان له حال مع ربه في الليل، تحسنت أحواله كلها في النهار.  

نعم.. إنها حلاوة الطاعة في الليل والناس نيام، حين يخلو العبد بربه، وينفض عن نفسه رداء الكسل، ومُتع الفراش، وجواذب الأرض والهوى، وينهض ناصبًا أقدامه بين يدي ربه، أو متقلبلًا في ليله بين تلاوة أو ذكر أو فكر.

«لا شك أن ليل المؤمن له صدى في نهاره، فمن أحيا ليله بذكر وركعات؛ وعمَّره بتلاوة وطاعات؛ وأناره بأوراد ودعوات، وَجَدَ أثر ذلك في نهاره؛ عونًا وفتوحات، وتوفيقًا وهدايات. (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (سورة محمد: 17)».

———————————-
(1) المصدر: من مقال للإمام حسن البنا، بعنوان (سبيل الظفر. عبادة ثم قيادة)، نُشر في جريدة (الإخوان المسلمون) بتاريخ (25 ربيع الأول 1356 هـ، الموافق 4 يونيو 1937م.

اترك تعليقا