روح الجَمَاعَة (2)

روح الجماعة (2)بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم ثريا  – (من علماء الأزهر)

وقفة مع مكنون هذا الكنز
أولا: الجماعة كائن حيّ. (تناولناه في الجزء الأول من المقال)

ثانياُ: المزج بين أفراد الجماعة
سر قوة الجماعة تتحقق بقوة المزج بين أفرادها، كالمزج بين جزيئات الهواء فيتكون الماء، فيتحقق الانتفاع به ولو بقي الأكسجين والهيدروجين منفصلين لما تحققت بهما الحياة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء: من الآية 30).

وهكذا مهما كان صلاح الأخ وتقواه يبقى أثره محدودًا، ونطاقه ضيقًا، ما بقي محصورًا في الـ (أنا) ولا يتحقق به نصرة الإسلام وإعزاز أهله، ألا ترى أن ما يموت بالجسم من خلايا يتجدد بأخرى تحل محلها، وأن ما يموت من كرات بالدم يتولد غيرها، وأن الله زود كل جسم بما يحفظ عليه حياته، وهكذا الجماعة الموصولة بالله، المخلصة في حمل راية الإسلام، الله يصطفي لها من الناس من يسد فراغ من أتعبه الطريق، أو أقعدته المشقات، أو صرفته الأهواء، أو غلبته نفسه، أو خدعه زخرف القول، أو أرهبه الوعيد، أو أسال لعابه الوعد.

ومع كل الآلام والألم الذي ينزل بالجماعة من العدو والصديق، ومع الحرب الشعواء التي جندت لها كل القوى العالمية وسخرت لها كل وسائل أعلامها، وقوات أمنها.

مع كل ذلك فإن الجماعة المسلمة ولود ودود، والدماء في شرايينها تتجدد، والأصفياء من أبنائها: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: من الآية 23).
ومع كل ذلك فإن الناس من حولهم يرون فيهم الأمل المرتقب، ومنهم من يلحق بركبهم على الرغم مما يراه من الاضطهاد والسجن والتعذيب والحرمان، والعناء الذي ينتظرهم بالسير في هذا الطريق، ومنهم من يؤيد ويحب ويؤازر.

والجماعة تشفق على أبنائها وترأف بهم، وتحرص على التراب الذي يمشي عليه أعضاؤها، وتأبى أن تفرط فيمن عرفتهم، وحبالها دائمًا إليهم موصولة، ولو تنكروا لها، وأيديهم إليهم ممتدة، ولو آذوها، وبابها مفتوح على مصراعيه لمن يؤوب مهما كان منه. كل ذلك في غير مِنَّةٍ ولا أذى، وغايتهم من ذلك أن يصفح الله عنهم ويغفر لهم: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور: من الآية22).

ثالثاً: العضو المنفصم يموت
وليعلم كل مسلم أن الأعضاء القوية، والسواعد الفتية، إن بترت وانفصمت عن جسمها، فإن وظيفتها تتعطل، وأن تلك الأعضاء حين يعتريها الشلل، تصبح عبئًا على الجسم، وقد تبذل المحاولات لإعادة الحركة إليها، ونفخ الحياة فيها، حتى إذا استيأس الأطباء، وأعيتهم الحيل، ولم يعد في جعبتهم دواء، وسرى لديهم خوف ووجل أن يتسرب الشلل إلى ما يجاوره، تراهم في لحظة يقررون أن البتر ضرورة للمحافظة على كيان الجسم. هذا قد يكون مع الجماعة ككائن حي مع فارق جوهري يتجلى في أن الجماعة لا تقوم بالبتر؛ ولكنها تترك ذلك لحركة الفرد؛ لأنها لا تفقد الأمل فيه، وتتمنى منه العود.والعود أحمد.

رابعاً: الغصن حياته مرهونة باتصاله بالشجرة
إن الجماعة شجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء، أغصانها مورقة مزهرة مثمرة، وعطاؤها متجدد، وثمارها طيبة موصولة لا تنقطع صيفًا ولا شتاءً. وإذا انفصم عنها غصن، ذبلت أوراقه، وماتت ثماره، وجفت عروقه، وصار حطبة تشتعل فيها النيران. وهذا شأن الفرد في الجماعة موصول بالأصل، فحياته باقية حتى بعد موته، وثماره وفيرة وهو في قبره، وله لسان صدق في الآخرين، وما انفصم أحد عن الجماعة إلا صار كالغصن المنقطع عن أصله.

خامساً: قانون الاستبدال
وليوقن كل مؤمن أن ذلك لا يؤثر على قوة الجماعة أو حركتها، لأن الله هو الذي يختار لدينه ودعوته من يحملها، ومن ثَمَّ فإن الله يستبدل به غيره، يكثر خيره وينتشر فضله ويعم نفعه. وما ذلك على الله بعزيز.
أخي في الله: وبعبارة أخرى ألا ترى اللبنات القوية المتينة لا قيمة لها ولا أثر، إلا إذا صارت بنيانًا مرصوصًا يشد بعضها بعضًا، ويدفع بعضها عن بعض، وبها يحتمي الإنسان من الحَرِّ والقَرِّ، وفيه تصان النفس والمال والعرض. عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ»(1). وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»(2).

سادساً: العمل الفردي خروج على الفطرة
العمل الجماعي والانطواء في جماعة فريضة شرعية تحدث عنها العلماء والفقهاء، وضرورة بشرية تحدث عنها علماء الاجتماع، لكنه مع ذلك من النواميس الكونية التي ما انفك عنها شيء كما يقول شيخ الطلاب: «إن روحَ الجماعة لا يسري في الآدميين فحسب، بل العجماوات! كذلك، وعِرْقُ الجماعة لا ينبض في الأناسي فقط، بل في الماء والشجر، ونَفَسُ الجماعة لا يتردد في البشر وحدهم، بل في الجماد والحجر!».
نعم إن الحركة في جماعة، من نواميس الكون، ولا يشذ عنها من أجناس الكون جنس، ومن شذ عنها هلك، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية (3): عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ – رضي الله عنه – قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ، لاَ تُقَأمُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ، إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» (4).

——————————-
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: باب تَشْبِيكِ الأَصَابِعِ فِى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ 2/143(481)، ومسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2585/65).
(2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2586/66).
(3) القاصية: المنفردة عن القطيع البعيدة عنه (النهاية 4/75).
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: فِي التَّشْدِيدِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ 1/129، والنسائي في كتاب الإمامة، باب: التَّشْدِيدِ فِى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ 2/106 (847).
انتهى الجزء الثاني من مقال: (روح الجماعة) ويتبعه الجزء الثالث والأخير إن شاء الله تعالى

اترك تعليقا