يكاد يُجمع أهل الاختصاص في التربية أن الولد انعكاس لصورة والديه وبيئة النشأة، وكل ما يسمعه ويراه ويشعره ينطبع فيه، ولهذا كان دور الوالدين في التربية والتنشئة له ما بعده، ومن رَبَا ماله ولم يُربي ولده؛ فقد ضيع الولد والثروة.
والمدرسة ركيزة من ركائز البناء والتربية، ومحضن تربوي هام في بناء الأفراد ونهضة المجتمعات والأمم، وللمدرسة رسالتين الأولى: تعليمية، والثانية: تربوية، ولا يمكن للمدرسة أن تهتم بأحدهما دون الأخرى، فهما كجناحي الطائر، حيث لا يمكنه الطيران والتحليق في الفضاء بجناح واحد، كذلك المدرسة تُحلق بجناحي التعليم والتربية في فضاء البناء التربوي والقيمي.
ونظرا لأثر البيت والمدرسة في التنشئة، كان لا بد من التواصل والتنسيق الدائم والفعال بينهما، حتى تكمل المدرسة ما يقوم به البيت، ويحافظ البيت على ما تغرسه المدرسة من قيم وآداب في الولد، لأنه من الخطورة بمكان أن يهدم البيت ما تبنيه المدرسة، أو تُضيع المدرسة آثار الجهود التربوية التى يقوم بها البيت في تربية أولاده، لذا وجب التنسيق الدائم والتواصل الفاعل والتعاون الكامل بينهما.
والمتأمل في تربية الأولاد يجدها من الأمور العظيمة والمهام الجسيمة، للأسباب التالية:
أولإً: لأن الفرد هو عماد المجتمعات والأمم، وسر نهضتها أو انتكاستها، والمسلم يعتني بتربية أولاده أو من لهم حق التربية عليه، أولًا لأنه راعٍ ومسئول عن رعيته، وسيحاسب على ذلك أمام ربه سبحانه وتعالى، هذه واحدة.
ثانيا: أن المرء يبتغي بذلك الأجر والمثوبة من الله عز وجل.
ثالثًا: أنه بحسن تربية ولده فإنه يقدم للأمة وللإنسانية فردًا صالحاً مصلحاً يشكل لبنه في بناء الأمة، وخطوة نحو تكوين البيت المسلم القدوة ثم المجتمع المسلم.
رابعًا: أن الولد الصالح الذى حسنت تربيته يعد زخرًا لمن ربوه يوم لقاء الله، وسببًا في عدم انقطاع باب الأجر عنهم، في حياتهم وحتي بعد موته، كما في حديث النبي ﷺ: «إذا مات بن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث. منها ولد صالح يدعو له»، وبالعكس من يفرط في تربية أولاده ويقصر في رعايتهم فهو مضيع للأمانة مفرط في حق الرعية، محروم من الخير الكثير، وسيسأل أمام ربه عن ذلك، فقد ورد في الحديث الشريف «إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع»، وأيضا ورد عنه ﷺ: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول».
المسئولية المشتركة: والمدرسة والبيت شركاء في تربية الأولاد فكل منهما مكمل للآخر ومتضامن في المسئولية، فليس من الصواب أن يتصور الآباء أن المدرسة وحدها هي المسئولة عن تربية الأولاد، أو تتخلى المدرسة عن مسئوليتها التربوية، لذلك وجب على الآباء والأمهات أن يتحملوا مسئوليتهم مع المدرسة في تربية أولادهم وذلك من خلال:
– التردد المستمر على المدرسة والسؤال عن الأولاد تربويًا وتعليميًا. – التواصل الدائم مع المعلمين والمعلمات القائمين على تربية الأولاد. – التفاعل مع أنشطة المدرسة ودفع الأولاد إلى المشاركة فيها. – مشاركة المدرسة بالمقترحات والجهود التي تُجوّد العمل وتطوره، مما يعود بالفائدة علي أبنائنا وبناتنا. – تربية الأولاد على احترام المعلمين والتواصل مع الزملاء والحفاظ على النظام المدرسي. – أن يتمثل الآباء والأمهات القدوة الحسنة في نفوس أبنائهم.
وبذلك ينشأ الأولاد وقد نما في نفوسهم حب العلم واحترام المعلم، والتمتع بحسن الخلق والمعاملة الحسنة، وهذا بفضل الجهود المشتركة بين البيت والمدرسة، فكيف يتربى الأولاد والبيت لا يرعى ما تبنيه المدرسة، أو كيف يستقيم الأولاد والمدرسة لا ترعى جهود البيت في التربية، إذًا لا بد أن تتوحد الجهود ونستشعر جميعًا المسئولية المشتركة، من أجل تربية جيل صالح ينفع نفسه ووطنه وأمته.
عليكم بالقدوة: ومن أعظم أساليب التربية تأثيرًا في النفوس وتهذيبًا للسلوك (التربية بالقدوة)، لدرجة أن بعض التربويين يطلقون عليها (أم الأساليب التربوية)، لأنها تحول الأفكار والنظريات إلى واقع وعمليات، فيرى الناس من المربي القدوة أفعاله قبل سماع أقواله، وبهذه الفِعال الحيَّة يتأثرون، وبها يقتدون.
والمربي هو المثل الأعلى لأولاده سواءً كان والدًا أو معلمًا، فالابن يقلد والده في سلوكه وأخلاقه عن قصد أو عن غير قصد، فبالقدوة يتعلم الإبن الصلاة ويواظب عليها عندما يرى والديه يواظبان على أدائها في أوقاتها، وكذلك باقي العبادات. وبالقدوة يتعود الطفل على أداء الحقوق كاملة، كحقوق الوالدين والمعلمين والأقارب والجيران. وبالقدوة ينشأ الإبن ويتربي على الصفات الحميدة والأخلاق الطيبة التي وجدها في والديه ومعلميه، ولذلك فالطفل الذي يرى والده صادقًا يتحرى الصدق، فهو يقتدى به فلا يكذب.
من هنا وجب علينا أيها المربون من آباء وأمهات ومعلمين ومعلمات أن نتمثل القدوة في عباداتنا وأخلاقنا ومعاملاتنا حتى يتربى أولادنا على كل ما هو صالح ونافع، اقتداءً بالمربي الأول ﷺ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وصدق الشاعر أبو الأسود الدؤلي حين قال:
والقدوة العملية تعني أن الحقائق النظرية تتجسد عملياً وواقعياً في حياة المربي القدوة، لذلك بعث الله الحبيب محمداً عبده ورسوله ﷺ ليكون قدوة للناس، فقد كان بشخصه وشمائله وسلوكه وأخلاقه ومعاملاته ترجمة عملية حية لحقائق القرآن وتعاليم الإسلام، لذلك لما سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ قالت: «كان خلقه القرآن»، وفي حديث آخر: «كان قرآنًا يمشي علي الأرض».
عيونهم معقودة بعينك: وعلى المربين من آباء وأمهات ومعلمين ومعلمات أن ينتبهوا إلى حقيقة تربوية دامغة؛ أن أولادنا وأتباعنا يلاحظوننا بعيون فاحصة، وينظرون في أقوالنا وأفعالنا بعقول ماحصة، فيقلدوننا. يقول عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ابنه: «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح ابني إصلاح نفسك، لأن عيونهم معقودةٌ بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيحُ عندهم ما استقبحت».
وهذا أمير المؤمنين هارون الرشيد لما دفع ولده الأمين إلى مؤدِّبه قال له: «يا أحمر – كان اسمه أحمر – إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيَّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعَرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعَلِّمه السُنَّة، بصِّره بمواقع الكلام، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تُمِعَنَّن في مسامحته، ولا تمُرَّن بك ساعة إلا وأنت مغتنمٌ فائدةٌ تفيده إيّاها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تُمْعِن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوِّمه – أي أصلحه – ما استطعت إلى ذلك سبيلًا بالقرب والمُلاينة، فإن أباهُما فبالشدة والغلظة».
وهذا الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قال لمؤدِّب ولده: «علمه الصدق كما تعلمه القرآن، واحمله على الأخلاق الحميدة، روِّه الشعر، جالس به أشراف الرجال وأهل العلم، جنِّبه السفلة والجُهَّال، فإنهم أسوأ الناس أدبًا، وقِّره في العلانية، وأنبه في السر واضربه على الكذب، لأن الكذب يدعو إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار». ندعو الله أن يعيننا علي تربية أولادنا، فهي مسئولية سنحاسب عليها أمام الله تبارك وتعالى. والحمد لله رب العالمين