شَيْءٌ عَن الشيخ حسن البنّا(*) – بقلم: محمد على الطاهر (1896-1974م)(**)
أريد أن أسجل شيئاُ عرفته عن الشهيد الكبير بمناسبة العذاب الاليم الذي أنزله إبراهيم باشا عبد الهادي وحكومته بالشعب المصري بحجة القضاء على الأستاذ البنّا وجماعة الإخوان. وقبل أن أسطر ما عندى عن المرحوم أحب أن يعرف القارئ أنني لست في مقام المؤرخ له، لأن تاريخه طويل وسيرته أطول، وجهاده أعظم، وشخصيته الفذة تحتاج إلى مجلد كبير، وإلى معرفة عميقة، لأن معرفتي به قليلة محدودة، فالإحاطة بأعماله وبتاريخه سيقوم بهما أهل العلم والاطلاع من أركان جماعته ومن مُحبيه ومُريده، كما أني لا أجزم بأن كُتبًا كثيرة عن هذه الشخصية الفذة ستوضع وتُطبع لاطلاع الأجيال المُقبلة على سيرة الرجل ومناقبه، بل قد يكون بعض هذه الكتب والمؤلفات قد تمت كتابته وأنه في سبيله إلى المطابع.
ولكني أقصد بهذا الفصل تدوين بعض ما عرفته شخصيًا لا أكثر ولا أقل، فإن كانت كتاباتى عنه مُختصرة مُختزلة فالسبب ظاهر والعذر واضح.
لمحة عن المرشد عرفت المرحوم الشيخ حسن البنّا المرشد العام للإخوان المسلمين منذ ثلاثة عشر عامًا، لمّا كانت دار الإخوان المتواضعة موجودة بالعتبة الخضراء، وقد حضرت فيها احتفالًا وطنيًا أقامته الجمعية لتكريم أعضاء الوُفود العربية التي حضرت المؤتمر البرلماني سنة 1938م، فقد نهض شاب لطيف وديع بلحية سوداء خفيفة والقى خطاب الترحيب، وكان المتكلم هو الشيخ حسن البنّا رئيس الجمعية، وكان يرتدي الملابس الأفرنجية، وكان في أيامها مدرسًا في مدرسة ابتدائية، وقد لحظت قوة تأثيره على الجماهير من خشوع السامعين له؛ لاتزانه وحُسن اختياره للجمل والكلمات.
ولما استفحل خطب الثورة القومية بفلسطين وكان أهلها يسفكون دماءهم في تلك الأيام دفاعًا عن تراث الإسلام، كان الشيخ حسن البنّا وجماعته ومجلتهم (النذير) في طليعة الهيئات الإسلامية في مصر التي آزرت الفلسطينيين بالدعاية وإعلاء الكلمة.
السنوات الأخيرة إن شخصية المرحوم البنا لم تتم وتبرز بروزها الحقيقي وتأخذ مكانها اللائق بها بين القادة والزعماء إلا في الأعوام الأخيرة وبعد الحرب العظمي التي انتهت 1945م، فقد نشطت جمعية الإخوان المسلمين نشاطًا عجيبًا واتخذت دارًا لائقة بها، ثم أصدرت صحفًا ومجلات منها اليومية والأسبوعية والشهرية، وكانت كلها تستهدف خدمة مصر والعالم الإسلامي، كما أنها أقامت الشركات الاقتصادية والمدارس والمستوصفات الطبية، وكلها أعمال يُقصد بها خدمة الأمة، وجمع الكلمة، ونشر دعوة الدين والأخلاق والفضائل الإسلامية، ومساعدة الفقير والمُعوز، فلمعت شخصية الأستاذ البنّا، وظهرت مواهبه وعمّ جهاده؛ فأحبه الناس والتفوا حوله، فازداد جهادًا وجلادًا، واستحق ذلك اللقب البديع الذي أُطلق عليه وهو (المرشد العام).
حرب فلسطين ولا مشاحة في أن أعظم شيء قام به المرشد وجماعته هو إنجادهم لفلسطين، فقد ساندوها كمسلمين من واجبهم إنقاذ دار الإسلام، وساعدوها كإنسانيين يجب عليهم مواساة المنكوبين والمظلومين، ولذلك تطوع فريق من الإخوان للحرب والاستشهاد في البلاد الفلسطينية المقدسة في سبيل الله، فقاتلوا اليهود والإنجليز ببسالة وتضحية، فاستشهد منهم عدد كبير رحمهم الله وكتبهم في الصديقين والشهداء.
رجولة الشيخ حسن البنّا وفي في أثناء ذلك قامة الضجة من جانب الملك عبد الله صاحب شرق الأردن حول تاليف حكومة فلسطينية في غزة فخطر لي أن أشترك في عملية إسكاته بطريقة واقعية وليس في الجرائد والمقالات، فاتصلت بالمرحوم المرشد بعد منتصف إحدى الليالي وقلت له: هل أنت مستعد لسفر إلى قطر آخر في سبيل الله؟ فقال: نعم، فقلت له: إذن فانتظرني في مكتبك بدار الإخوان فإني آت.
وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل كنت وإياه في الصالون الداخلي وحدنا، فقال: خيرًا؟ فقلت – بعد أن شرحت له الحالة بين الملك عبد الله وأهل فلسطين -: إنني لم أجد طريقة لتسكيت هذه الفتنة إلا بأن تذهب أنت ومحمد صالح حرب باشا، والأستاذ أحمد حسين رئيس مصر الفتاة كوفد إلى الملك عبد الله في عمّأن وأن يرأس الأمير عبد الكريم الخطابي هذا الوفد، ثم استدرجت وقلت: إنني أعرف ما بينك وبين الأخ أحمد حسين من فتور ووحشة، ومن خصومات موضعية، ولكن المصيبة التي نُكب بها العرب والإسلام بضياع معظم فلسطين ووقوعه بين الأعداء تجعلك تنس وتجعل أحمد ينس كل ما بينكما. فقال الأستاذ البنا: لقد أصبت، وإني لعلى استعداد للسفر معه، ثم سالني: هل اتفقت مع السادة الذين ذكرتهم؟ فقلت: لا ولكني على يقين من كونهم سيوافقونني على هذا الاقتراح، ثم فارقته قرب الفجر وعُدت إلى بيتي، وفي الضحى كنّا جميعًا عند الأمير عبد الكريم الخطابي، الذي وافق على الاقتراح كما وافق عليه صالح باشا حرب والأستاذ أحمد حسين، واستعدوا جميعًا للسفر بالطائرة في صباح اليوم التالي. ولكن لما درى النقراشي باشا بهذه الرحلة أمر إدارة الجوازات بعدم السماح للوفد بالسفر وتعطل المسعى.
رجعة إلى الموضوع لقد كان الاستطراد وإيراد هذه الحادثة في أثناء كلامي على شخصية المرحوم الأستاذ البنّا لازمًا، فهو وإن جاء عَرَضًا إلا أنه قد يُفيد التاريخ.
ولنرجع إلى موضوعنا الأصلي، فأقول: إن المرحوم الأستاذ البنّا لم يكف عن مساعدة فلسطين بالسلاح والمقاتلين وإسعاف المشردين والمنكوبين من أهلها، ثم ابتكر مشروعًا جليلًا لإسعافهم وذلك أنه نظم حركة سريعة لهذا الغرض لجمع الإسعافات العينية لهم كالملابس والطعام والأدوية والأغطية، فاستعد شُبّأن الإخوان لذلك في القاهرة وجميع أنحاء القُطر، ولما دنت ساعة الزحف للمتطوعين لهذا الغرض، إذا النقراشي باشا رئيس الوزراء يُصدر أمرًا عسكريًا بمنعهم، وأرسل الشرطة للقبض عليهم وتشتيت شملهم، وفشل هذا المشروع الخيري الإنساني وحُرم المساكين ثمرته.
وقد زارني المرحوم البنّا بعد ذلك وكان الالم ظاهرًا عليه، بعد ما كان من تلك الوزارة التي لم يستطع أحد في الدنيا أن يفهم غرضها من ذلك المنع سوى الحسد الحزبي، حتى لا تعلو كلمة الشيخ البنّا وجماعته بين الناس، حتى ولو كان فيه منع خير عن أبرياء لا دخل لهم في هذا الحسد!
الخلاصة إن ما تقدم سرده من حوادث وملاحظات إنما أقصد بها وصف شخصية الشيخ البنّا رحمه الله، ولين عريكته، وسلامة منطقه، وقربه من القلوب، وسرعة فهمه للأمور، وسهولة العمل معه، ومبادرته إلى الاستجابة، فلا يُسوف ولا يُعقد ولا يُغالط، خلافًا لما اعتاده بعض الساسة والمتزعمين من تسويف الأمور وتعقيد المسائل وتصعيب كل سهل.
وسبب ذلك كله أن المرحوم البنّا كان رجلًا نقيًا سهلًا بسيطًا في عمله وأساليب حياته، ليس عن بساطة في فهمه ليسهل استدراجه، كلا.. فقد كان ذكيًّا المعيًّا وعالمًا فذًا وكان مخلصًا، وإلا فما هو السر في انقياد الجماهير المثقفة المتعلمة لزعامته وتلبيته وهو فقير لا عصبية له، ولا منصب، ولا مال يُغري بالالتفاف حوله.
اللهم ارحمه فإنه كان بارًا بخلقك، مُخلصًا لدعوتك، مواسيًا للفقراء، ونصيرًا للمجاهدين، إلى أن لقي وجهك شهيدًا كريمًا، يا أرحم الراحمين.
——————– (*)المصدر: من كتاب (معتقل هاكستب: مذكرات ومفكرات)، للكاتب والمناضل الفلسطيني الكبير الأستاذ محمد على الطاهر، والذى صدر في (1369هـ – 1950م)، ونشرته (المطبعة العالمية بمصر). من ص (60: 65). (**)الأستاذ محمد على الطاهر: (1896-1974م)صحافي وواحد من رجالات الرعيل الأول في فلسطين وكنيته أبو الحسن. ولد في نابلس وتلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارسها. وقد عمل في الصحافة مراسلًا لجريدة فتى العرب البيروتية في يافا. وعلى صفحاتها كان من أوائل من حذروا من الأهداف الصهيونية في فلسطين. لجأ في مطلع الحرب العالمية الأولى إلى القاهرة هربًا من مظالم جمال باشا، ولكن السلطات البريطانية وضعته لأكثر من سنتين (1915-1917) في معتقل الجيزة. وحين وضعت الحرب أوزارها عاد إلى فلسطين وشارك في تحرير جريدة (سورية الجنوبية) التي كانت تصدر في القدس. ثم عين مديرًا للبريد والبرق في نابلس، ولكنه لم يستطع البقاء في وظيفته هذه بعد أن اطلع على مكان سلطات الانتداب وسعيها لتنفيذ المطامع الصهيونية فاستقال وغادر فلسطين إلى مصر. عمل في القاهرة على تاليف (اللجنة الفلسطينية) سنة 1920 وتولى رئاستها وكتب عن فلسطين في عدة صحف منها جريدة اللواء المصري، فحذر من المخاطر الصهيونية ومن سعي بريطانيا لإنشاء دولة يهودية، وأقام علاقات وثيقة مع عدد من رجالات مصر الوطنين منهم الدكتور محمد حسين هيكل الذي كان يتولى رئاسة تحرير جريدة السياسة. وأصدر سنة 1924 (جريدة الشورى) ومعها كانت تصدر نشرات مكتب الاستعلامات العربي الفلسطيني عن جرائم الاستعمار في سورية وفلسطين. وكانت جريداته تعمل للقضايا العربية ومؤتمر دعوات التحرر أينما كانت. ووصفها بأنها “جريدة تبحث في شؤون البلاد العربية والأقطار المستعبدة”. وجعل من هذه العبارة شعارًا لها مكتوبا تحت اسمها. وهكذا، وبسبب سياستها هذه، منعت من دخول معظم الأقطار العربية الخاضعة للاستعمار، وبخاصة فلسطين وسورية ولبنان، وصودرت أعدادها. واضطر الطاهر إلى إغلاقها سنة 1931 وإصدارها بأسماء أخرى منها (الرقيب) و(المنهاج) و(الناس) و(الجديد)” و(الشباب) و(العلم المصري). شارك في المؤتمر الإسلامي ف القدس سنة 1931م (المؤتمر الإسلامي العام) وسجل ما رآه في فلسطين وما دار في خلده من خواطر في كتابه (نظرات الشورى). وزار فلسطين قبيل اندلاع ثورة 1936-1939م فلم يستطع البقاء طويلًا فيها لأن سلطات الانتداب أنذرته بالخروج فعاد إلى القاهرة. وأخذ على عاتقه مهمة الإعلام بأحداث الثورة وأهدافها. وقد جمع أخبر اثورة وجرائم سلطات الانتداب في كتاب (فلسطين أرض الشهداء)، ولكن السلطات المصرية صادرته بأمر من بريطانيا قبل أن تتم طباعته، ولم يقدر له أن يرى النور فيما بعد. اعتقل سنة 1940م ومرض في المعتقل فنقل إلى أحد المستشفيات، ولكنه هرب منه وظل هائمًا طوال سنتين إلى أن تولى صديقه مصطفى النحاس رئاسة للوزارة فأمر بعدم ملاحقته. وقد سجل ما عاناه في السجن وفي التشرد من – ملحوظات وخواطر وملاحظات متناثرة وبعض الشجون والشؤون والتجارب – في كتابه (ظلام السجن). وحين كانت المساعي نشطة لانشاء جامعة الدول العربية بذل كل ما في وسعه ليكون لفلسطين مكان فيها وتم له ذلك. هاجم الأمم المتحدة لإقرارها مشروع تقسيم فلسطين وحمل بريطانيا مسؤولية ما جرى ويجري. وسجل ذلك في كتاب (أوراق مجموعة – كتاب أحمر عن فظائع الانكليز وغدر اليهود وصبر العرب). اعتقل الطاهر سنة 1949 مدة شهر في معتقل هاكستب قرب القاهرة. وفي سنة 1955 غادر القاهرة التي أمضى فيها نحو 35 سنة إلى بيروت فاستقر فيها دون أن يقطع صلته بالأحداث. وفيها توفي ودفن.