ضبط الإيقاع

ضبط الإيقاع: (درس في فقه العمل الجماعي)

تسعى الجماعة (قيادة وصفًا) لتحقيق أهداف عظيمة ولخدمة قضايا كبيرة وهذا يقتضي تضافر الجهود وحسن التعاون بين القيادة والصف وكذلك ضبط الإيقاع بينهما ففي مسار الدعوة تتنوع المواقف والأحوال بين الكف والأخذ والتوقف والمشي واللين والشدة والإبطاء والإسراع وينبغي على الصف في هذا كله أن يضبط إيقاعه وأداءه مع قيادته ليحدث التناغم والتلاحم وينتفي الارتباك والتباعد.

وقد تعلمنا هذا الدرس البليغ من سيرة الحبيب ﷺ:
فنري المسلمين فور انتهاء البيعة في العقبة وقد امتلأوا حماسة وقوة يعربون عن استعدادهم للانقضاض على أهليهم وذويهم بسيوفهم فيكفهم ﷺ عن هذا قائلًا: «لم أُومر بالقتال بعد».

وفي الحديبية حين رفض سهيل بن عمرو أن يُذكر النبي ﷺ في صحيفة الصلح بوصف الرسالة، واشترط أن يرد المسلمون من يسلم من المشركين وألا يرد المشركون من يرجع من المسلمين عن دينه فثارت ثائرة المسلمين وعلى رأسهم عمر (رضي الله عنه) وظنوا هذا رضا بالدنية وتهاونًا فيرد ﷺ بلسان الواثق بربه: «أنا عبد الله ولن يضيعني الله».

ففي المثالين المذكورين نرى فى الصف الحماسة والرغبة في الأخذ بقوة بينما كانت القيادة ممثلة فى رسول الله ﷺ على غير ذلك. فما كان أمام الصف إلا إلجام النفس وضبط الإيقاع مع القيادة.

وعلى الجانب الآخر:
نرى الناس بعد كل ما لاقوه في غزوة الأحزاب من خوف وجوع وعناء (وإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) يتطلعون إلى شيء من الراحة ولكن قائدهم وقدوتهم ﷺ ينادي فيهم بقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة»
. فيتسابق الأجناد الصادقون لبلوغ ديار بني قريظة في الموعد المحدود حتى يؤثر بعضهم أن تفوته صلاة العصر ولا يصليها إلا في ديار بني قريظة أخذًا بظاهر الأمر.

ونراهم كذلك في غزوة تبوك وقد ندبهم النبي ﷺ إلى الخروج لملاقاة الروم في بلادهم على قلة عَدد، وضعف عُدد وندرة ظهر وشدة حر، وبعد شُقة وقد أوشكت الثمار أن تنضج وهم – إلى هذا – في سعة من أمرهم حيث لم يكن ثمة خطر داهم ولا عدو مهاجم ومع ذلك كله نهض الناس ممتثلين للأمر مضطلعين بالعبء.

ففي هذين الموقفين نرى فى الجنود الرغبة في القعود ولكن القيادة ترى عكس ذلك فلا يملكون إلا النهوض والإسراع تماشيًا مع رغبة القيادة وضبطًا لإيقاعهم معها.

وقد تظهر في مسار الدعوة حالة ثالثة ترى القيادة فيها أن يتغير التوجه لظروف تقدرها كما كان الحال في بدر إذ خرج الناس نشطين لملاقاة العير وما تحمل من خيرات ثم إذا بهم يدعون فجأة للنفير فماذا هم صانعون؟

أيجيبون أو يتمردون أو ينكصون؟ حاشا لله فما كان هذا وما يكون ولكنهم كانوا الرجال الذين ينتظرون الهيعة فيطيرون إليها ومما يستحق التوقف والتأمل هنا أن النبي ﷺ لم يكتف – حين أراد تحويل وجهتهم إلى النفير – برصيد الحب العجيب له والثقة في تأييده بالوحي ولكنه استطلع رأيهم وطلب مشورتهم ولم يكتف بالاستماع إلى رأي ممثلي المهاجرين فحسب بل أصر على الاستماع إلى رأي الأنصار كذلك وهم الذين بايعوه على النصرة ما كان في ديارهم.

ومن ثم فعلى الصف المؤمن أن يضبط إيقاعه مع قيادته كفًا وأخذًا توقفًا ومشيًا لينًا وشدة إبطاءًا وإسراعًا طالما تحققت في هذه القيادة الكفاءة والإخلاص، وطالما التزمت كذلك بمبدأ الشورى الذي فيه العصمة للقيادة وللصف وللجماعة على السواء.
والله من وراء القصد. وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.

اترك تعليقا