علاقة الصادقين بدعوتهم

علاقة الصادقين بدعوتهمبقلم: الدكتور محمد حامد عليوة

يحرص الصادقون على دعوتهم، ويعملون فيها كأصحاب يعملون لها لا أُجراء مستخدمين فيها، وهذا الشعور نحو الدعوة ليس شعور مصلحة واستحواذ، ولكنه شعور عطاء وإنجاز، شعور يدفع صاحبه إلى بذل كل غالٍ وثمين من أجل رفعة دعوته والحفاظ عليها وحمل لواءها في العالمين.

وحال صاحب الدعوة مع دعوته، هو حال المجاهد الذى صوره الإمام حسن البنّا فى إحدى مقالته، والتى حدد فيها ملامح المجاهدين من أصحاب الدعوات، وكيف هو حالهم مع دعوتهم ورسالتهم، وكيف همّهم وما يشغل نفوسهم على الطريق، فقال – رحمه الله – :

«أستطيع أن أتصور المجاهد شخصاً قد أعد عدته، وأخذ أهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحى نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الإهتمام، على قدم الاستعداد أبداً، إن دعي أجاب وإن نودي لبى، غدوه ورواحه، وحديثه وكلامه، وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذى أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التى وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد فى سبيلها، تقرأ فى قسمات وجهه، وترى فى بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه، ما يدلك على ما يضطرم فى قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة».(*)

يقول المربي الأستاذ محمد العدوي -رحمه الله- لصاحب الدعوة؛ موجهًا ومرشدًا لصاحب الدعوة:

«أنت وحدك الذي تحدد علاقتك بالدعوة، هل أنت صاحب البيت أم تسكن فيه بالإيجار إلى حين؟ فصاحب البيت يحرص على سلامته وصيانته والمحافظة عليه مهما كلفه ذلك، أما المستأجر فإن فعل فبالقدر الذي يحقق له راحته ورغباته حال سُكناه وفقط».

ومن الأسئلة التي يجب أن تشغل بال صاحب الدعوة:
أين أنا من دعوتي؟ وأين دعوتي مني؟ هل أعطيها ما تستحق من الوقت والجهد والفكر والمال و..؟. هل تحتل دعوتى أول اهتماماتي وتأتى في مقدمة أولوياتي؟. هل أحمل همَّها وأنشغل بها؟. هل أحرص على مبائها وأحافظ على ثوابتها؟. هل أقدم مصلحة دعوتى على مصالحي الشخصية؟. وهل لدعوتى رأي فى حسم قرارتي المصيرية؟ … وغيرها من الأسئلة، التى تُحدد طبيعة علاقتى بالدعوة، هل هي علاقة (مِلْك) أم علاقة (إيجَار)؟!.

فمالك الشيء يخالف عليه، ويحافظ عليه، ويتعب من أجله، ويحرص دائماّ على حمايته وصيانته، ويفكر فى زيادته ونمائه، وتطويره وتحسينه.

والدعوة إلى الله تعالى من أجل الأعمال وأحسنها، وأعظم المهام وأشرفها، وأفضل الوظائف وأكملها. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)). فصلت، فهي وظيفة الأنبياء والرسل: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) (الكهف من الآية 56). ووظيفة من اتبع سبيلهم من المؤمنين (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)). يوسف

وبالنظر فى تاريخ الرسالات وأنباء الرسل نجد أن  أنبياء الله ورسله قد وهبوا أنفسهم للدعوة، وعاشوا لها وبها، وضحوا بكل غالٍ وعزيز من أجلها، وهجروا الأهل والأوطان من أجل نشرها وتبليغها، ابتغاء وجه ربهم العظيم، ومن ثم فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة بهمة عالية وعزيمة ماضية. 

وعلى دربهم سار المخلصون العاملون من أتباعهم، فلم تُوقف مسيرتهم الصعاب وبُعد المسافات وكثرة المشقات، وقطعوا القِفار وخاضوا البحار من أجل تبليغها، وقدموا الأنفس والأموال والأوقات جهادًا من أجلها.

ويصور الإمام بن القيم – رحمه الله – حال أنبياء الله ورسله مع دعوتهم، وكيف ضحوا على طريقها، فيقول: «يا مخنت العزم أين أنت والطريق طريق، تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمى في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسي وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد». (كتاب الفوائد)

من مشاعر الصادقين نحو دعوتهم
ومن مشاعر الصادقين على طريق الحق نحو دعوتهم ورسالتهم؛ ما عبر عنه الإمام حسن البنا يومًا بقوله: «راحتي في تعبي، وسعادتي في دعوتي.»

الله.. الله.. الله، حينما تكون راحة المرء في بذله وجهده وتعبه وجده، من أجل دينه ودعوته.
الله.. الله.. الله، حينما تكون أسعد أوقات المرء وهو بين أحبابه وفى كنف إخوانه، يسهرون ويفكرون ويبذلون من أجل دعوتهم ورسالتهم ومصالح مجتمعاتهم وأمتهم.

إن من عايشوا الإمام حسن البنا وتكلموا عنه قالوا: «كان الرجل يفيض قلبه حباً لدعوته.»، وقالوا عنه أيضاً: «كانت أسعد أوقاته حين يلتقي بنا، حيث كنا نقرأ في عينيه لهفة الله، وتظل هذه المشاعر الجياشة قائمة، حتى إذا أوشك اللقاء على الانتهاء، كنا نرى في لمحات وجهه ونظرات عينيه لوعة الفراق.»

رحم الله الرجل الذى عاش لدعوته ومات مجاهداً في سبيل نصرة دينه. يحكى الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – عن حال الإمام حسن البنا – رحمه الله – في الدعوة إلى الله، وكيف كانت تضحياته وبذله ودأبه على طريق الدعوة، وكيف كان مهموماً بدعوته مشغولاً بها، فقال:
«لقد جاب الآفاق وهو يُذكر بالله ويُعرف بدينه، وأحسبه قضى تسعة أعشار عمره مسافرًا يضرب مناكب الأرض، لا يقصد من حله وترحاله إلا بعث أمة وإحياء تاريخ.»

———————–
(*) المصدر: من مقال بعنوان: (أمة في ميدان الجهاد)، للإمام حسن البنا –رحمه الله– نشر في جريدة الإخوان المسلمين، العدد (18) بتاريخ 14 جماد أول 1354هـ، الموافق 13 أغسطس 1935م.

اترك تعليقا