إن من سبقونا بإيمان وصدق على طريق الدعوة؛ تاج فوق رؤوسنا، نقتفي أثرهم، وننهل من معين بذلهم، ونتزود من جميل خصالهم وكريم فعالهم. هكذا يُربينا القرآن الكريم، كيف تكون أخلاقنا مع إخواننا السابقين الصادقين من أهل الإيمان والفضل ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَأنِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَأنِ﴾ الحشر 10 لذلك لهم جميعًا منّا: (خالص الدعاء – جميل الوفاء – صدق الاقتداء – عظيم الفداء).
من فضائل أهل السبق ومن فضل أهل السبق علينا، أنهم أخذوا بأيدينا إلى الله، وساروا أمامنا على طريق الدعوة، يوم أن كنّا في أمس الحاجة إلى من يُرشدنا ويوجهنا ويحنوا علينا. وهنا أذكر بعضاً مما تعلمناه منهم، – وهو كثير -، أنتقي منها هذه (الفوائد العشر):
تعلمنا منهم: أن نرتبط في هذا الطريق بمبادئ الدعوة لا بأشخاصها، ولأن المبادئ لا يمكن أن نراها إلا متجسدة في أشخاص، فقد تمسكنا بالمبدأ مع حبنا وتقديرنا لمن رأينا فيهم هذه المبادئ، إنها تربية تقدير لا تربية تقديس.
وتعلمنا منهم: أن دعوتنا .. دعوة إصلاح وحق، ورسالة خير وصدق، يقوم على أمرها العاملون الأبرار، ويضحي في سبيلها الأطهار، وعلى طريقها المبارك يقضي نحبه الأخيار. ولهذا كله فهي في كنف الرحيم الغفار، وفي معية العزيز القهار، وسينصرها ربها مهما تكالب عليها الأشرار، وتذرَّع بها الغاصبون الفجَّار. (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)) – التوبة
وتعلمنا منهم: أن أصحاب الدعوات بحاجة إلى الارتباط بكتاب الله عز وجل، للتزود من معينه الصافي، فلا يمر على أحدهم يوم دون تلاوة وتدبر وانتفاع، فمن فوائد الارتباط بالقرآن الكريم: (تسكن به الروح – ويطمئنّ به القلب – ويرقى به الفكر – ويستقيم به السلوك – وتسمو به الأخلاق – وتُذلل به العقبات – وتُستجلب به الرحمات – وتُقضى به الحاجات – وتُجمع بِه القلوب – وبه العون والمدد لمواصلة السير على طريق الدعوة). فيا حسرة من أضاع هذه البركات، وحرم نفسه هذه النفحات!
وتعلمنا منهم: أن دعوتنا دعوة حق، ودعوة الحق في رعاية الحق وتحت كنفه، وبالتالي لن يُوقف زحفها أحد.ورغم الهجمة التي تتعرض لها الدعوة، والأذى الذي يطال الدعاة والمصلحين، نقول للمتربصين بدعوتنا: لن تستطيعوا إطفاء نور الحق، مهما فعلتم، لأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، وعلى غرار ما قال عبد المطلب يوم جاء أبرهه لهدم الكعبة (للبيت رب يحميه)، نقول أيضا: (للدعوة ربُ يحميها).
وتعلمنا منهم: أن فترات المحن والشدائد في عمر الدعوات بحاجة إلى مزيد من الثقة وتلاحم الصفوف وترابط القلوب، لأن الخصوم والأعداء يستثمرون هذه الفترات العصيبة في شق الصفوف وإثارة الخلافات. فلا تسمحوا لهم بالتفريق بينكم، أو تفكيك صفكم، والنيل من وحدتكم، وإضعاف روابطكم.
وتعلمنا منهم: اجتهد أن تنتصر للحق والمبدأ لا لنفسك وذاتك، فقد تكسب موقفًا لنفسك، وتخسر قلب أحد إخوانك. فأيهما أنفع وأبقى لك؟ موقف عابر تنتصر فيه لذاتك، أم قلب أخ تسعد به طول حياتك؟
وتعلمنا منهم: أن كل شيء يبدأ صغيرًا ثم يكبر، إلا المحن والشدائد تبدأ كبيرة ثم تصغر. حيث تشتد المحن في أولها ومع الصبر يخف وقعها في النفس، وإن كانت المِحنة في الحق فإنها باليقين والاحتساب تتحول إلى طاقة دافعة، وعبادة نافعة، وسعادة جامعة. فكل شيء في جنب الله يهون.
وتعلمنا منهم: أن معادن الرجال تظهر في أوقات الأزمات وفي أتون المحن. أما الفورات اللحظية والحماسات الوقتية التي لا تُلازمها قوة نفسية عظيمة وحالة قلبية قويمة؛ سرعان ما تنتهي وتتلاشى مع أول هزة. لذلك قال الإمام البنا: «إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب». فليست الرجولة أن يمتلك المرء الشجاعة الوقتية والبطولة الشكلية؛ ولما يَجِدُّ الجدّ ويتطلب الأمر الجلد والصبر لا يتحمل متاعب الطريق ولا يمتلك القدرة على تحمل مشاقه.
وتعلمنا منهم: أن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، وأن ما عند الناس لن تناله إلا بأمر الله ومشيئته، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، فاحرص أولا على تقوية وتحسين حالك مع الله، يقوى ويتحسن حالك مع خلق الله. فلن تنال حب الناس ورضاهم إلا من خلال حب الله لك ورضاه عنك، فقلبك وقلوب الناس بيده سبحانه. ولن تتبوأ مكانة في قلوب الخلق دون أن يكون لك مكانة عند الخالق. فاحرص على إصلاح ما بينك وبين الله، يُصلح الله ما بينك وبين الخلائق كلها.
وصلى الله على سيدنا محمد، إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.