روى البخاري ومسلم عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «إنّ النّاس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب اللّه ما حدّثت حديثا، ثمّ يتلو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾ [البقرة]. إنّ إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق بالأسواق، وإنّ إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإنّ أبا هريرة كان يلزم رسول اللّه ﷺ بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون».
ما وراء النص: 1ـ استغراب الشيء واستبعاد وقوعه ليس شرطاً أن يكون في محله وموقعه فربما العلة من القائل والزاعم لبعده عن واقع من يتهم، فلم يسر بمسيره، ولم يجمع أسباب نجاحه ولم ينشغل انشغاله، والعلة في الغرابة ربط الأمر بالنتائج دون النظر في الوسائل، «من ذاق عرف»دلالة: «إنكم تزعمون».
2ـ من الدلالات الواضحة أنه لا ينال الإرث الحقيقي ولا يفقه فقه التوريث إلا من طال جلوسه وحضر جنانه وأركانه وعد الأنفاس وأحصاها بين يدي مورثه عندها فقط يظفر بما لم يظفر به غيره فيفوق الأقران ويحمل الراية ويسير من بعده حق الحمل والمسير: «من دام قرع الباب يوشك أن يفتح له»
3ـ من فقه التوريث أن يجمع من خصال الخير ما لا يجمع بغيره، فعينه على القائل والمقول فيستفيد تربية وعلماً وتواضعاً وخلقاً، فلا يكون وارثا لعلم دوم عمل أو لمعرفة دون تطبيق، يعذر المستغرب والمتهم بأجمل العبارات وأروع البيان وأعذر لمن لا يعهد عهدته، ويجرب تجربته دلالات روائع من قول: «إن إخواننا».
4ـ من فقه التوريث التضحية والبذل للوصول إلى الغايات العظام، فلا إرث دون ملازمة حقيقية بأصول الأوقات لا بفراغها، وإيثار المشقة على الدعة والراحة، فالاستواء منفي والغاية لا تدرج، أتظن أن ينال من عنده فضول وقت كمن ليس عنده في منهجه وقاموسه تلك الكلمة (الفراغ)، هيهات: «إن أبا هريرة كان يلزم».
5ـ دلالات هامة في فقه التوريث ومنهجيات لازمة لحمل الأمانات سطرها أبو هربرة لمن يتدبر، ويريد أن يعرف كيف يحمل العلم والحركة والعمل والطريقة: «ملازمة بالجنان والأركان، حضور دون انقطاع ولا أعذار وإن قل العدد أو جاءت العراقيل، ومذاكرة وحفظ لما يلقى ويسمع». أجمعها وسترى العجب من التأييد الألهي لك والنبوغ الحقيقي لميراثك وتفوق على أقرانك.
6ـ من فقه التوريث أنه لا يجتمع أمران في قلب واحد في زمن واحد، لا بد أن تعرف أنه ليس المتفرغ للعلم والحركة والعمل كمن يجمع المال ويسعى على الثروة، فليس الشاهد كالغائب، ولا مستحضر الجارحة والقلب كمن جلس بجسده وقلبه وفكره في كسبه وبعد طول الزمان ستظهر الفوارق.
7ـ من فقه التوريث على المورث أن يعرض دائماً على وارثه ومن اجتمع حوله ما عنده من علم وحركة ومعرفة وطريق، وإن قل عدد من اجتمع بين يديه، ولا ينظر في العدد فليس ذلك شرطاً في التبليغ والتعليم، فرب واحد بأمة ومن أعطاك كله فلا تضن عليه بشئ.
8ـ من فقه التوريث سرعة الاستجابة من الوارث عند عرض الأمر عليه وانتخابه دون غيره، واغتنام الفرصة التي قد لا تتاح له بعد ذلك أو تنتقل لغيره فإن ذلك أول علامة الجد والفوز وإدراك الغاية: «فبسطت ردائي».
9ـ ما تفقده عند الطلب تحصله عند الأداء، فجوع البطن وقلة المال والمتاع وبذل الغالي والنفيس في الطلب ووقته، حتما سيعود بعد إدراك المحصول وحمل التركة، فبعد فقر أبي هريرة توالت الأعوام وقد أغناه الله وبارك في ماله، وزوجه سيدته ورزقه الإمارة، بذل في البداية وجني الخير دينا ودنيا في الخواتيم، فتأمل ولا تنظر تحت قدمك.
10ـ أجمل ما في ميراثك يا أبا هريرة هي خشيتك من ربك التي لازمتك، ووعيك أن ما حملته أمانة في عنقك يجب تبليغها وتأثم إذا أخفيت شيئا منها، وأمتثالا حقيقيا أن السلسلة لن تقف عندي ولا تنقطع دوني: «لولا آيتان من كتاب الله ..»
11ـ أنواع الفقه في الحديث: «فقه البداية، فقه اغتنام الفرص، فقه استشراف المستقبل والمآلات، فقه الملازمة، فقه الأولوية .. وأنواع أخرى».