إن الذي ينهض للعمل مع المجتمع فإنما توضع في يده باسم الله مفاتيح الدنيا وسر إدارتها، مفاتيح كنوزها وقصورها وخزائنها وممالكها فلينظر أحدكم أي أمانة ألقيت بين يديه بهذه المفاتيح -مفاتيح العمل-. ألا ما أزهد الناس في الخير الذي بين أيديهم وأبعدهم عن النصر وهو منهم قريب وأجهلهم بحقائق أنفسهم وهي سافرة لهم.
إن العمل سر النصر وقانون العزة وسبيل السعادة والسيادة.
إن دعوة الضعيف الذي يقبل على الله تعالى بشعور القهر والغلبة تفتح أبواب السماء وتفجر ينابيع الأرض بأسباب النصر وجنده فكان ﷺ يبرأ إلى الله من حوله وقوته ويقول: «اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت». (أخرجه ابن حبان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه).
وقد روى البخاري عن مصعب بني سعد قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه، فقال رسول الله ﷺ«هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم». وفي رواية للنسائي أن سعد ظن أن له فضلا على من دونه من أصحاب النبي، فقال النبي ﷺ«إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم».
وكان من ضعف النبي ﷺ بين يدي الله عز وجل «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى قريب يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي»(صحيح السيرة النبوية إبراهيم العلى ص 136)
يتجهمني: جهمه : أي استقبله بوجه كريه أو أغلظ له في القول.
إن كل جهد يبذله الداعي في دعوة الحق إنما هو مدد يزيد به رصيد النصر الذي ينتظره، فإذا قعد وكف عن العمل فقد كف عن مدد مؤكد للنصر (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 143). (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128).
يقول الشهيد سيد قطب – رحمه الله: «فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم … في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمِّة … ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا .. وهكذا كان قلب رسول الله ﷺ».
وفضلا عن جملة الأخلاق الحسنة التي دعانا إليها الإسلام والتي تعتبر من الثوابت التي لا يستغني عنها داع إلى الله فإننا نورد فيما يلي بعضا من القدرات التي ينبغي أن تتوفر فيمن يتحرك بدعوة الله بين الناس.
وهي بمثابة عوامل أساسية تتوقف على شخص الداعي إلى الله:
1-القدرة على مخالطة الناس والاهتمام بهم والانفعال بأمورهم وقضاياهم: فمن فقد هذه الصفة فهو منطو على نفسه معتزل للناس، وتلك سلبية تباعد بينه وبين تحقيق شيء من أهم أهدافه في هذا المجال.
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ ليخالطنا حتى كان يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير». (النغير:أي العصفور).
وروى الترمذي، أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».
2-حب الناس والتحبب إليهم: فذلك من صميم الصفات التي تيسر جمع الناس على الخير، روى الإمام البيهقي في السنن الكبرى عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال:«المؤمن مألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».
– وروى الإمام مالك في مسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتزاورين في والمتباذلين في». ( جامع الأصول 4776).
– فحب الناس يوجب حب الله سبحانه وتعالى للمحب والمحبوب، وحاجة الداعية ملحة في تودده إلى الناس ليأخذوا منه ويهتدوا إلى الخير والصلاح والى الايجابية والعمل.
– يقول الإمام البنا: «ونحب أن يعلم قومنا وكل المسلمين قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم وكرامتهم إن كان فيها الفداء».
3-حب الخير للناس:هذا الحب للخير لهم هو أصل أصيل فيمن يتصدى للعمل من أجل الإسلام، إذ فالأصل في الداعي إلى الله أن يكون محبا للخير لهم … وما من خير إلا وأمر الإسلام به، وما من شر إلا ونهي الإسلام عنه.
روى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مغاليق للخير مفاتيح للشر، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل مفاتيح الشر على يديه».
4-بذل وتضحية:إن آفة العمل الإسلامي في أي زمان ومكان أن يقدم العاملون له فائض جهودهم وفائض أوقاتهم وفائض أموالهم.
فهكذا رأينا في سيرة النبي ﷺ وفي تاريخ الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ما دانت لهم الدنيا بهذه السرعة في تاريخ الحضارات إلا بما قدموا من تضحيات.
5-مداراة من يتقي فحشه:فقد روى الامام مسلم عن عائشة رضى الله عنها أن رجلا استأذن على النبي ﷺ فقال: «ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة» … فلما دخل ألان له القول .. فقالت عائشة: فقلت يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول .. قال: «يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من وادعه الناس أو تركه الناس اتقاء فحشه».
6-توظيف الناس وتوجيههم:فجهود الناس لا تثمر ما دامت جهودا فردية إلا في حدود ذواتهم، بينما تنظيم هذه الجهود وتوجيهها يثرى الحياة الاجتماعية (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2).
وإن توظيف هذه الجهود والطاقات من أهم ما يجب على الدعاة إلى الله على اعتبار أن ذلك وظيفة من وظائفهم.
وإن كل جهد في العمل الإسلامي يبذله مسلم من المسلمين مهما كان مكان هذا المسلم أو مكانته مطلوب، ولا يمكن أن يستغني عنه بحال ويجب أن يوظف وكذلك كل جهد لصالح العمل الإسلامي يبذله أي باذل كائنا ما كان.
وإن على الدعاة إلى الله أن يبصروا الناس كل الناس بما يجب عليهم من عمل للإسلام وأن يوظفوا هذا العمل ليحقق أحسن الأهداف وأولاها بالتحقيق.