في رحاب رمضان (شهرٌ له فلسفة)

في رحاب رمضان (شهرٌ له فلسفة) – الشيخ محمد الغزالي

نتوقف اليوم مع مختارات قيمة من إحدى خطب الجمعة التى ألقاها فضيلة العلامة الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – بأحد مساجد القاهرة، وكان عنوانها (شهرٌ له فلسفة).

فقال رحمه الله تعالى: 

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:
فإن أيامًا طيبة توشك أن تفد إلينا، ربما كانت الجمعة المقبلة اليوم الأول من رمضان، إن بشائر الموسم الكبير – موسم العبادة والتقوى- هبت علينا، تستروحها قلوبنا، وإن كان المرء يتساءل: ما أسرع ما عادت الأيام! ورجعت الذكريات!

وإذا ألقى الإنسان نظرة خلفه إن كان قد بلغ العشرين أو الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أو أكثر أو أقل فإنه يشعر أن الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها قد تداخل بعضها في بعض، وأصبحت كتلة واحدة منكمشة مبهمة لا يدري بالضبط، إلا أنها أصبحت ماضيًا تركه خلفه ولن يعود.

الإحساس بالزمن غريب، لأن الناس يوم يلقون ربهم سيشعرون بأن الأعمار كلها قد أصبحت ماضيًا وانكمشت وتداخلت أجزاؤها بعضها في البعض الآخر، وأصبحت شيئًا قليلًا: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون: 112-114].

تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم، فهو – جل شانه – يتحدث عن الساعة: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا) [طه: 102-104].

والواقع أن الإنسان يبقى على ظهر الأرض مدة طويلة، الطفل فيها يشِبُّ، والشاب فيها يشيخ، ومع ذلك، فالمرء ينظر إلى عمره الذي خلَّفه فلا يجد إلا أن هذا الماضي الطويل قد أصبح هذه الكتلة المنكمشة في زمن مبهم لا يدري أوله ولا آخره، ولكن الإنسان الذي لا يدري ما كان، يجب أن يعلم أن الله يسجل عليه كل ما كان، (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 29].

وقد مرت سنة، ففي مثل هذه الأيام كنا نتهيأ لاستقبال شهر رمضان المبارك، والآن نتهيأ لاستقبال آخر حتى نلقى ربنا، فينبغي أن ننتفع من الزمن الذي هو رأس مالنا، الذي هو هبة القدر الأعلى لنا، إنه لا يجامل فيه، إنه إما صديق وإما عدو، صديق إن انتفعت به، وعدو إن أهملته وأضعته.

ورمضان يجيء، ولا نتحدث عنه طويلًا، إنما نريد أن نتحدث عن فلسفة الإسلام في العلاقة بين الروح والجسد، لمناسبة صيام المسلمين في رمضان؛ فإن هذا الصيام في حقيقته ترويض للغرائز البشرية العاتية، فليس هناك أعتى من غريزة البطن التي تطلب الأكل باستمرار، وليس هناك أعتى من غريزة الجنس التي تريد أن تُنَفِّسَ عن تطلعها باستمرار.

يجيء رمضان فتبدأ قصة الصيام، وأنا لا أعلق على صيام المسلمين، إني اعلم أن رمضان شهر الطعام لا شهر الصيام، شهر الأكل والمتع، وليس شهر تدريب الغرائز وتكوين الإرادات!

دعنا من هذا، فلا أتحدث عنه، إنما أتحدث عن ليالي رمضان؛ فإن الله – جل شأنه – لأمرٍ ما؛ أنزل كتابه في هذا الشهر، بدأ نزول القرآن في شهر رمضان، وكان النبي يضاعف من إقباله على القرآن الكريم، ومن مُدارسته له، فهو طول العام يقرأ القرآن، ولكنه في شهر رمضان يضاعف الدراسة، وكلمة الدراسة شيء آخر غير القراءة العابرة، أو التلاوة المجردة، لأن القراءة العابرة نوع من حفظ الحروف، التلاوة المجردة نوع من ترتيل الكلمات؛ لكن روح القرآن في معانيه، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة: 22].

نحب أن نقول: إن هذا الكتاب جاء إلى الناس بحياة تذهب الموت الأدبي، الموت العقلي، الموت الحضاري؛ الأمم محتاجة إلى عصر إحياء، فمن الذي يحييها؟ (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122].

ما مصدر هذا النور الذي نمشي به بين الناس؟ ما مصدر هذه الحياة التي أذهبت الموت الأدبي والمادي في الأمم؟ إنه القرآن، القرآن الذي جاء إلى أمة على هامش الدنيا فما زال يرتفع بها حتى جعلها قمة الوجود. مَن الذي بوأها هذه المكانة؟ من الذي رفعها إلى هذا المستوى؟ إنه القرآن الكريم؛ ولذلك فإن النبي حضّ على دراسته، حضّ على قراءته قراءة بحث واستطلاع وتفقُّه وترتيل، لذلك كان القرآن في رمضان النور الذي تُضاء به الليالي وتبيَّض.

ومن أعجب ما قرأت في وصف ليالي الصالحين الذين يقرؤون القرآن، والذين ينتفعون بوعده ووعيده، وأمره ونهيه، أبيات لشاعر من الشعراء وصف من يقومون الليل فقال:

تَتَجَافَى جُنُوبُهم *** عَن وَطِيءِ الـمَضَاجِعِ
كُلُّهُمْ بَيْنَ خَائفٍ *** مُسْتَجِيرٍ وطَامِعِ
ترَكُوا لَذَّةَ الكَرَى *** للعُيُونِ الهَواجِعِ
وَرَعَوْا أنجُمَ الدُّجَى *** طالعاً بَعْدَ طَالِعِ
لو تَرَاهُمْ إذا هُمُ *** خطَرُوا بالأصَابِعِ
وإذا هُم تأوَّهوا *** عِنْدَ مَرِّ القَوارِعِ
وإذا باشَرُوا الثَّرَى *** بالخُدُودِ الضَّوارعِ
واسْتَهَلَّتْ عُيُونُهم *** فائضَاتِ المـَدامِعِ
وَدَعَوْا: يا مَلِيكَنَا! *** يا جميلَ الصَّنَائِعِ
اُعْفُ عَنَّا ذُنُوبَنَا *** للوُجُوهِ الخَواشِعِ
اُعْفُ عَنَّا ذُنُوبَنَا *** لِلعُيُونِ الدَّوامِعِ
أنْتَ إنْ لم يَكُنْ لنَا *** شافعٌ خيرُ شَافِعِ
فأُجِيبُوا إِجَابَةً *** لم تَقَعْ في المسَامِعِ
ليسَ ما تصْنَعُونَهُ *** أوليائي بِضَائِعِ
تَاجِرُوني بِضَاعَتِي *** تربَحُوا في البَضَائِعِ
وابذُلُوا لي نُفُوسَكُم *** إنَّها فِي وَدَائِعِي

هذا قيام الليل في رمضان، بعد صيام، كما وصف نبي الإسلام محمد ، صيام يرتفع به مستوى الصائم فيتحوّل في المجتمع إلى عنصر رحمة، إلى عنصر سلام، إلى عنصر طمأنينة، وزكاة نفس، وشرف خلق، ونضارة سيرة: «وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب. فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَله فلْيقُل: إني امرؤ صائم».

الرفث: الكلام العيب، الصخب: الكلام الذي لا معنى له ولا خير فيه، الذي هو ضجة ليس لها عقل. إني صائم: أي لا يكون الصائم سبَّاباً مع السبابين، ولا شتاماً مع الشتامين.

هذا الشهر المقبل فيه فلسفة الإسلام في ربط الدنيا بالآخرة، فيه ربط الروح بالجسد، ربط الأرض بالسماء، ربط البشر بالوحي الإلهي، ربط الدنيا بالكتاب الذي أضاء لها الطريق، وحدد لها الغاية! شهرٌ ينبغي أن يعرف المسلمون فضله، وأن يستعدوا له. أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وفى الخطبة الثانية قال – رحمه الله – فى ختامها: 

لا بدَّ أن نصحو، لا بدَّ أن نستيقظ. ليالي العبادة لا تكون ليالي تسلية، ليالي العبادة تكون ليالي إقبال على الله. شهر رمضان موسم طاعة، ومواسم الطاعات جعلت معالم في حياة الناس؛ كي ينتهوا إليها ليبدؤوا من عندها صفحة جديدة، ولذلك لا بدَّ لاستقبال الشهر من نية جديدة لمن أراد رضوان الله، نية جديدة… أن أغير من حياتي كذا وكذا بالتحديد، أن أجدد في حياتي كذا وكذا بالتعيين. هذا هو مفهوم مواسم العبادة. أما أن تجيء أنثى لذعها الهجر وغياب الحبيب فتتأوه ليستمع الصُّوَّأم أو القوام إلى تأوهاتها، ويحتفل الناس بهذه التسلية، فهذا نوع من العبث الذي تهلك به الأمم.

إن الله أهلك الأولين لما لعبوا بالعبادات، وأخذوها شكلا ولم يتحركوا بها قلبا! وحذرنا ربنا أن نجرى وراء هذه المسالك الطائشة فقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].

«اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر».
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10].
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].

——————————–

اترك تعليقا