في ظلال رسالة دعوتنا (2) – للإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله
الروح العامة للرسالة: هذه الرسالة لها روح مستمدة من خصوصية هذه الأمة التي هي: (خصوصية المنشأ – خصوصية المستوى – خصوصية التكليف). 1- خصوصية المنشأ: يشير الأستاذ محمد قطب في كتابه: (رؤية إسلامية في أحوال العالم المعاصر) إلى أنَّ أول ما كتبه الرسول ﷺ عندما وصل إلى المدينة أنَّ المسلمين والمؤمنين (أمة من دون الناس) بمعنى خصوصيتها في المنشأ وهو أنها ربانية ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَأي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام)، فهي خصوصية المنشأ لأنها ربانية المنشأ.
2- خصوصية المستوى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110) خيرية المستوى وهي خصوصية لهذه الأمة تجعلها بحقٍّ أمة من دون الناس، إلى هذا المعنى العميق يُشير أ. محمد قطب.
3- خصوصية التكليف: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143)تكليف الشهادة على النَّاس، تكليف الوصاية على الناس، تكليف أستاذية العالم. وهذه الشهادة تستدعي الحضور، وتستدعي الشهود، حتى تؤدى على وجهها الصحيح، الحضور والشهود زمانًا ومكانًا، لتحكم على أكبر كَمٍّ – كما يقول أ. محمد قطب – من قضايا البشر وأحداثه زمانًا ومكانًا، فهي تحتاج إلى أن تختزل، وإلى أن تُصنف، وإلى أن تمسح تلك القضايا والأحداث، حتى تستطيع أن تؤدي الشهادة على وجهها، وهذا يعني أنها وظيفة أمة، أو وظيفة جماعية، وليست وظيفة فردية.
وتكليف الشهادة تضطلع به الأمة، ولا يقوى عليه الفرد؛ لأن الفرد عمره محدود وجهده قاصر، أما الأمة فهي تمتد في هذا العمق وفي هذا الاتساع زمانًا ومكانًا، وهذا يُعطي خصوصية الأمة في مكانها، فهي تشمل مساحة واسعة من الأرض، وفي زمانها، فهي تمتد في عمق الزمان حتى تشهد على قضايا الناس وعلى أحداثهم، وتستطيع أن تُؤدي هذه الشهادة، وما يتفق مع وظيفة الإنسان ووظيفة خلقه وتكوينه في إقامة العدل وحقن الدماء، مناقضًا لدعوة الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: من الآية 30) (جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة).
وكما يقول (د.ماجد الكيلاني، الأمة الإسلامية): ولقد سبق اختيار إبراهيم – عليه السلام – للبدء بالإعداد لإخراج الأمة المسلمة اختبارًا لقدرته على القيامِ بهذه المهمة ومدى استعداده لتقديم تكاليفها ومتطلباتها، وإلى هذا يشير القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَأمًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾ (البقرة). مضى إبراهيم- عليه السلام- مصحوبًا بأبنائه وأسرته في التمهيد لإخراج الأمة المسلمة، فابتدأ بتحديد موطنها ومؤسساتها؛ حيث اختار لها موطنًا منطقة وسطًا تقع في ملتقى المواصلات العالمية وتفاعل الحضارات وهي منطقة تمتد من بلاد الشام عبر دلتا مصر والحجاز.
كذلك أقام مؤسستين تربويتين: الأولى: للتربية والتزكية وهي الكعبة والمسجد الحرام. الثانية: للدعوة والنشر وهي المسجد الأقصى، ثم انقسمت الأسرة إلى جوار المسجدين ليقوم كل فريق بالإشراف على المهمة الموكلة إليه في منطقته وإعداد الأجواء لفكرة “الأمة” الجديدة، وإلى هذا الإعداد الإبراهيمي كان الإشارة القرآنية التالية: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)﴾ (البقرة).
ثم كانت الانطلاقة الأولى لإخراج (أمة الرسالة) برسالة موسى التي جرى التمهيد لها برحيلِ يوسف وأسرة يعقوب إلى مصر وإشاعة جو من الثقافة الملائمة للأمة التي يُراد إخراجها، وكان الخروج- أو الهجرة- بالمؤمنين بالرسالة الجديدة مرورًا بشمال منطقة المسجد الحرام والتوجه إلى منطقة المسجد الأقصى لتطهير أرض (أمة الرسالة) التي رسم حدودها إبراهيم في هذه المنطقة الشاسعة من الأرض، ولبدء الدعوة والنشر فيها بدءًا من إبراهيم وبنيه موسى وعيسى عليهما السلام من فرع يعقوب عليه السلام، ثم محمد صلى الله عليه وسلم من فرع إسماعيل عليه السلام.
ويذكر الدكتور حسين مؤنس في كتابه (أصول الحكم في الإسلام) أنَّ الرسول ﷺ أشار إلى هذا المعنى (في غزوة تبوك) بعد أن تراجع الروم- وأمسك بحجر وألقى به، وقال: “هذا شمالنا” وألقى بحجر آخر ناحية الجنوب، وقال: “هذا يمننا”، معناه اتساع الرقعة الخاصة بالأمة الإسلامية في هذا الامتداد الضخم الذي سوف تسيح فيه الأمة الإسلامية، وقد حدث ذلك، لما غزا المسلمون الشام بعد ذلك. فقه أبو بكر الصديق هذا المعنى حين حذَّر جيوش الفتح الإسلامي التي وجهها إلى منطقة ما حول الأقصى من الانحرافِ عن أهداف الرسالة الإسلامية فقال: “إنكم تقدمون الشام وهي أرض شبيعة (مشبعة بالخيرات)، وإنَّ الله ممكنكم حتى تتخذوا فيها مساجد فلا يعلم أنكم إنما تأتونها تلهيًّا، وإياكم والأشر (البطر)”.
وقصد من ذلك ألا يجعلوها مكانًا للتلهي والكِبْر، كما فعل اليهود والنصارى وغفلوا عن الوظيفةِ الأساسية للمقيمين حول المسجد الأقصى وانحرفوا لاستغلال بركات المنطقة الجغرافية والطبيعية في الترف والشهوات والمفاسد والصراعات، وبذلك استحقوا أنَّ يبعث الله عليهم عبادًا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار ودمروا مؤسسات اللهو الدنيوي التي ألهتهم عن وظيفة الدعوة وتبليغ الرسالة. (كما يقول د.ماجد الكيلاني في كتاب “الأمة المسلمة”).
هذا التكليف بهذه المهمة الضخمة لا شك أنه يحمل على الإشفاق ويبعث على الاستنفار وهي الروح التي تظل الرسالة. روح الإشفاق والعاطفة الصادقة الجياشة التي عندما تكلم عنها الأستاذ الإمام البنا أسالت المدامع وأهاجت المشاعر، وأقضت المضاجع، روح الإشفاق على الأمة وهي ذاهلة عن هذا التكليف، والإشفاق عليها أن ينزل بها عقاب الله عندما لا تقوم بهذا التكليف، ويستبدل بها غيرها.
روح الإشفاق لأنه تكليف ضخم، إنه تكليف الشهادة، تكليف الحضور، تكليف الشهود والحكم على قضايا الناس وأحداثهم على هذا النحو امتدادًا في الزمان واتساعًا في المكان- ولا شك أنه تكليفٌ يحمل على الإشفاقِ ويحمل على تلك العاطفة الصادقة الجياشة والمشاعر النبيلة التي صدَّر بها الأستاذ الإمام البنا هذه الرسالة يقول:
“نحب أن يعلم قومنا- وكل المسلمين قومنا- أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، وما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا وملكت علينا مشاعرنا، فأقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعنا. وإنه لعزيزٌ علينا جد عزيز أن نرى ما يُحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم يوما من الأيام” (رسالة دعوتنا).
وروح الإشفاق هذه تواكبها ولا شك روح الاستنفار، روح الاستنفار التام والكامل التي تعني روح الجد، والبعد عن الميوعة والاستهتار والتلكؤ، والبعد عن رُوح الجد، وأعداؤنا جادون وهم يحيكون حولنا المخططات والمؤامرات. في الوقت التي تُحاك فيه المؤامرات، حتى يهدد كياننا الديني- كما ذكر الأستاذ الإمام البنا- بالإلحاد والإباحية، وكياننا الدنيوي بغلبة الأجنبي على خيراتِ البلاد نجد هذه الروح من الميوعة والاستهتار. وهذه الروح مضارها أكثر من نفعها – كما يقول الإمام البنا – لأنها قد تُسيئ إلى الإسلام، وهو ذلك الشعور الفياض الذي يملأ هذه النفوس، نفوس أمتنا الإسلامية، ولكن دون وعي دقيق، دون وعي بكيفية خدمة هذا الشعور من أجل خدمة الإسلام، فهو شعور لا يأخذ حقه من الخدمة ولا من العناية، لا يأخذ حقه من خلال الوعي الدقيق بحيث يصبح إيمانًا منتجًا، وتصبح إرادة قوية على فعل الخير.
منهج الإمام البنا في تصنيف الناس أمام الدعوة ولذلك وهو يتكلم عن أصناف الناس يتناولهم ونظره على أوضاع الأمة، بعينٍ لمَّاحة ونفس آسية حزينة، بعيدًا عن أن يتكلم في عقائد الناس، أو يتناول إيمانهم، وكما يقول ابن تيمية رحمه الله: إنَّ من ممادح أهل العلم أنهم يخطِّئون ولا يكفّرون، وأما المبتدعة فإنهم يكفْرون ويفجرون. وهذا المعنى ملحوظ جدًّا في تقسيم الأستاذ الإمام البنا للناس من حوله، هو لا يتناول أبدًا جوانب الإيمان ولا العقائد، وعلى العكس فهو يثبت لهم الإسلام والإيمان والإخلاص، إلا أنه يعلن أنه هكذا كامن في شعورهم أو مستكن في شعورهم لكنهم لا يُدركون ولا يعون كيف يخدمونه، أو كيف يعملون له.
وهذا أمر خطير لأنه يُصنفهم في مربع الخصوم وهم لا يشعرون، والتعلل بأنهم لا يشعرون بذلك إنما هو معنى من معاني الميوعة والاستهتار، وهذا أمر خطير وصف الله به فئة من الناس ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) البقرة 11، عدم الشعور بأن الإنسان لا يُدرك ماذا يفعل، وقد تكلَّم الإمام البنا عن هذا المعنى فقال: تجلس مع أحد الناس وتتحدث معه عن الإسلام وعن قضايانا، فيثور معك وتهتاج مشاعره وبعد أن تنتهي ويعاهدك على العمل لنصرةِ هذا الدين، وبعد أن ينتهي الكلام، فإذا به ينسى تمامًا وبسرعة كل ما تكلَّم به، وإذا به في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار ملحدًا مع الملحدين، وعابدًا مع العابدين، وهذه صورة من صور الاستهتار وصورة من صور الميوعة والتلكؤ، بعيدًا عن رُوح الجد بما تعنيه من العبوس والخشونة والرزانة والوقار.
يقول الإمام البنا: “والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان أن إيمانهم مخدرٌ نائمٌ في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين. ظاهرة نفسية عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين، أن نُؤمن بالفكرة إيمانًا يُخيَّل للناس حين نتحدث إليهم عنها أنها ستحملنا على نسف الجبال وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا، حتى إذا هدأت ثائرة الكلام وانفض نظام الجمع نسي كل إيمانه وعقل فكرته، فهو لا يُفكر في العملِ لها ولا يحدث نفسه بأن يُجاهد أضعف الجهاد في سبيلها، بل إنه قد يبالغ في هذه الغفلة، وهذا النسيان حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو لا يشعر؟ أو لست تضحك عجبًا حين ترى رجلًا من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعاتِ النهار ملحدًا مع الملحدين وعابدًا مع العابدين”.
وعلى الرغم مما وجده في الناسِ من فقدان الإيمان لطابعه الفعال، وأنه ليست له أي مظاهر تدل عليه، مع ذلك نجد الإمام البنا لا يصف الناس بأنهم منافقون، فيقول: إنك تجده عابدًا مع العابدين وملحدًا مع الملحدين في ساعتين متجاورتين.
ثم يقول في مهمتنا: “هذا الخور أو النسيان أو الغفلة أو قل فيه ما شئت هو الذي جعلنا نحاول أن نوقظ “مبدأنا” في نفوس قومنا”. وهذا يدل على أن الإمام كان يعرف الوسط الذي يعيش فيه ويضع يده على أدوائه وعلله، وأهم ما فيه هذا المناخ العام من الميوعة ومن التلكؤ والاستهتار، وكما قال الشيخ الغزالي: أنَّ الإمام البنا بدأ عمله من الصفر، فشرع يعمل في صمتٍ ودون ضجيج، يحيي الإسلام المستكن في النفوس، ويطلقه للعمل والبناء. ولذلك عاب على الناس هذه المواقف من الميوعة والاستهتار ودعا الناس إلى أن يكون موقفهم منا واحدًا من أربعة، ليعرف كل واحد لماذا هو قريب منا أو معنا مؤمن بفكرتنا؟ أو لماذا هو بعيد عنا نافر منا؟ فالمطلوب إيجاد هذا الوعي واليقظة في تحديد موقفه لأنَّ عدم تحديد ذلك وتركه إلى الميوعة والاستهتار أمر في غاية الخطورة ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)﴾ (البقرة).
إنه أمرٌ في غايةِ الخطورة، أن يبقى اللاشعور في الإنسانِ هو الميل أو النفور دون وعي أو علم، والإنسان في هذه الحالة يقوم بتصرفات دون أن يعرف لماذا هو يفعل ذلك أو يهمل ذلك؟ فالذي يميل لنا وهو لا يعلم حقيقة دعوتنا، وأنها مبرأة من الأغراض والمصالح ومن الأشخاص والمنافع، وأننا لا نتزيد بها وجاهةً ولا نطلب مالًا ولا نرجو من الناسِ أو نطلب منهم جزاءً ولا شكورًا، فالله غايتنا ورجاؤنا الجنة.
—————————— انتهى الجزء (2)، ونواصل الموضوع في الجزء (3) بمشيئة الله تعالى.