للإمام حسن البنا – رحمه الله الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، وبعد،
تابع : شرائط إنجاز الأمة هذا التكليف الضخم
ثالثًا: باعث البلاغ (تكليف البلاغ وحدوده) وكما يذكر الإمام البنا أنَّ التكليفَ الذي نحن أمامه وهو حقيقة البلاغ يحتاج إلى جهد جهيد ويحتاج إلى تلك الكفاءة العالية، ويحتاج إلى ذلك الصبر القوي؛ لأنَّ إحساسك بأن ما تقوم به مرتبط بتكليف البلاغ – كما يقولون – وحقيقة البلاغ أو طبيعة القيام بهذا التكليف عصمة للداعي وعصمة للدعوة من الخطأ ومن الانحراف. كما قال الحق سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية 67).
وهذه العصمة تمتد للداعي، فلا يستعجل النتائج قبل الوسائل ولا يعتسف المراحل؛ لأنه يبلغ عن الله وهو تكليف صعب وشاق. ولذلك قديمًا كان سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول لسعد بن أبي وقاص في وصاياه: “الزم العدل فهو وإن بدا لينًا أقطع للباطل”. فلا شك أنك تصل إلى الحقيقة وإن طال الأمد وإن طال الوقت، وتتحصل على النتائج وتجني الإفادة قطعًا، والإفادة أمرها إلى الله فقد تأتي فرصة لم تمكن في الحسبان تجعل لعملك أبرك الثمرات. ولكن المهم أن تسير في الطريقِ الصحيح، وأنت منضبط بشرائطِ الإنجاز؛ لأنَّ النشاطَ البشري لا نستطيع أن نعزله أبدًا عن طرائقِ تشترط لإنجازه، وعن بواعث معللة لدوامه واستقراره، وباعث البلاغ على هذا النحو أقطع للباطل عندما نُحسنه فعلًا؛ ولأنَّ طبيعةَ البلاغ تُصبح عصمةً للعمل كله من الارتطام والصراع. لماذا؟ لأن طبيعة الإسلام ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، فطبيعة البلاغ فيه هذا الشرط الذي يتم به الإنجاز. يعني- بُلغتنا الآن- أنَّ العنفَ لا يدخل ضمن وسائل تحقيق الهدف، وهذا يعصم العمل كله من الارتطام والصراع.
وقد رفض الأستاذ الإمام البنا – تمامًا – كل العروض التي عُرضت عليه في في أثناء سيره الطويل بالدعوة أن يعتسف المراحل، وأن يبدأ في صراعات، ومواجهات، ويستخدم القوة، وقصة شباب محمد، ومحمد عطية خميس، معروفة، فقد التقوا بالإمام البنا وجلسوا معه وحاصروه في مكتبه ووجهوا إليه السلاح، وطلبوا منه إما أن يُوقِّع استقالته أو يُغيِّر منهاج الجماعة، وينتهج العنفَ والقوةَ في تحقيقِ الأهداف والمقاصد، فأبى الإمام البنا – رحمه الله – وقال لهم: هذا هو صدري، وفتح لهم خزانة المركز العام وقال لهم وهذه هي النقود فخذوها، ولكن لن أُغيِّرَ هذا الطريق وهذا الخط أبدًا.
فهو وإن بدا لينًا أقطع الباطل، وكانت هذه قناعة منه رحمه الله؛ ولذلك تكلم عن المنهاج وهو يتحدث عن خطط الأداء، فالنفس البشرية بطبيعتها لا تميل إلى الإيمان بمبدأ لا ينتصر أو لا تعرف كيف تحقق معه النصر، هذه طبيعة النفس البشرية، مبدأ لا ينتصر أو لا يعرف كيف تحقق له النصر، فإرادتك نحو خدمته تكون ضعيفة ولا شك.
ولذلك تكلَّم الأستاذ الإمام البنا عن كيف ننتصر فقال: (وسوف نسلك في نجاحِ هذه الدعوة من السُّبل والوسائل ما أقرَّه الدين نفسُه. وإن بدا لينًا فهو أقطع للباطل، لن نتخطى أبدًا الحواجز. فكل أمة تُريد أن تتخطى تلك الحواجز الطبيعية نصيبها الحرمان). (من كلمات الإمام البنا – في سبيل النهوض)، والمقصود بالحواجز الطبيعية إعداد الأمة وتهيئتها بالتربية الإيمانية طويلة الأمد عميقة الأثر تهيئتها لحمل الرسالة، ومن يريد أن يتخطى هذا الأمر مصيره الحرمان سواء أكان فردًا أم جماعة.
ولذلك اعتمد – رحمه الله عليه – هذا المنهجَ وهو مطمئنٌ إليه جدًّا فلمَّا ساوموه عليه أن سيقتلوه قال إن نفسي فداؤه، وتراجعوا وانفصلوا عن الإخوان بعد ذلك وكما يقولون (ذهب الطغيان وبقي الإخوان). فالطبيعةُ البشريةُ غير ميالة بأن تعتقد في مبدأ لا يتحقق له النصر، أو لا تدري كيف تنصره، لذلك تبقى عقبة كبيرة. ولذلك وضع الإمام البنا المنهاج الذي يتحقق به النصر لهذا ا لمبدأ ويكتب له به النجاح سوف نسلك في سبيل نجاحها من السبل والوسائل ما قرره الدين نفسه، أو ما أقره الدين نفسه.
رابعًا: باعث المثل الأعلى وأثره الصالح في العمران لا شك أيضا أن من الأمور التي ذكرت في الرسالة والتي تكون داعيا من دواعي النجاح في المثل الأعلى مع طريقة عرضه من ناحية وأسلوب أو إظهار طبيعة تحقيقه في حياة الناس من ناحية أخرى. أن نظهر أثره الصالح في العمران. وهو كما يقول الإمام البنا ما أثبت حكم التاريخ على صلاحيته وأهليته في إصلاح الوجود.أثره الصالح في العمران بمعنى، العالم الثقافي الذي بعثه ونوعية الرجال التي أبدعها ذلك النموذج، واستطاع فعلًا أن يخرجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
المعروف عن سيدنا أبي عبيدة – كما يروي البلاذري في أنسابِ الأشراف يقول: “إن سيدنا عمر رضي الله عنه، لما فُتحت الشام يقول فدخل عليه في دويرة (دار صغيرة) اتخذها، فنظر فلم يجد شيئًا إلا قِربة ماء وجراب فيه تمر وسيف معلق، فقال عمر- رضي الله عنه -: إنَّ الله قد أحل لك ما هو أكثر من ذلك وأنت أمير تنفعك الشارة (يعني المظهر)، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: ” الشارة الإسلام يا عمر “، فبكي عمر رضي الله عنه بُكاءً شديدًا حتى إنَّ سيدنا أبا عبيدة أشفق عليه فواساه فقال: والله إنما أبكى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي خرج أمثالك، أبكي هذه الذكرى العظيمة “.
سيدنا عمر الزاهد يرى مَن هو أزهد منه وهو أمير الجيوش وفاتح من الفاتحين العظام، إنه فاتح الشام. أبو عبيدة بن الجراح. انظر، دويرة ليس فيها إلا قربة ماء وجراب فيه تمر وسيف معلق، فهي إذن نوعية الرجال التي أنتجها ذلك المثل، نوعية الرجال الذين أبدعهم، وكما نرى عمر- رضي الله عنه – في عدله وصرامته، نرى عثمان رضي الله عنه في سماحته وكرمه كل تهمته استماعه إلى الشكوى والشاكين، ويقتل في سبيل الله، ونرى كذلك سيدنا على – رضي الله عنه – بوفائه وحكمته، لقد علمهم صلى الله عليه وسلم تلك المعاني، إنه العالم الثقافي الذي بعثه المثل الأعلى.
وكما يقولون: الثقافة ليست بكثرةِ القراءة ولا الشهادات إنما الباعث وراء الأعمال فيقولون: هذا مثقف ملتزم(كل مثقف ملتزم) يعني فيه ضوابط يلتزم بها لأنَّ الباعثَ وراء أعماله يقوم على الفكر البصير هذا هو المثقف كما يقول مالك بن نبي، والعالم الثقافي الذي بعثه، إنها فلسفة الأعمال، انظر إلى سيدنا عمر- رضي الله عنه- يقول لسيدنا عمرو بن العاص كلماته المشهورة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.
إنها فلسفةٌ في إقامةِ العدل، إنه العالم الثقافي الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا ولَّى عمرُ أبا موسى الأشعري على الكوفةِ بعث له وقال له: سمعت أن لك ولأهلك هيأة ليست لغيرك من المسلمين، فلا تكن يا عبدَ الله كالبهيمة مرَّت على وادٍ خصب، فلم يكن همها إلا الشبع وإن حتفها في الشبع. وإن الراعي إذا زاغ زاغت رعيته، إنها فلسفة، إنه العالم الثقافي الذي بعثه هذا النموذج. النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه اثنان من الصحابة في بدر قبل أن يغزو، وقبل أن يلتقي المشركين وقالا له يا رسول الله أمسكنا المشركون ونحن في الطريق إليك، وقالوا لنا أنتم أصحاب محمد قلنا لا، قالوا أتقاتلون معه؟ قلنا لهم: لا وعاهدناهم على ذلك، فماذا نفعل. والرسول في حاجةٍ إلى الناس فقال لهم نُوفي لهم بعهدهم ونستعين بالله عليهم، لا تقاتلوا معنا. نُوفي لهم بعهدهم.
صورة من معاني الوفاء حتى مع الكفار وهو في موقفِ الحرب نوعية الرجال التي أبدعها رسول الله والعالم الثقافي الذي بعثه، إنها فلسفة وراء الأعمال، لا شك أنها أثبتت صلاحيته، ومما لا شك أن ذلك يعين على زيادةِ الإيمان به، وقوة الإرادة من أجل نصرته، وهكذا يظهر أنَّ هذا المبدأ يستحق أن ينصر، ونعرف كيف ننصره، فإنَّ النصرَ له سنن، فإنَّ خالفها فلا يتحقق، والإرادة لا تحقق النجاح؛ لأنَّ النجاحَ له قدرة وصناعة يصنع بها، وقد تحقق النجاح لهذا المبدأ بتلك النوعيات التي أخرجها. ولذلك كان حرص الإمام البنا – رحمه الله – أن يُوقظ تلك النماذج حتى يراها الناس، وقت ما جاء إلى القاهرة كانت إحدى أهدافه التاريخية عموم الدعاية وتكوين الأنصار، الذين يوثق بهم صلته بالمجتمع المصري في تبني قضاياه ومشاكله.
كما قال في موضوع الإنشاء الشهير في دار العلوم: (وأعددت لذلك من الناحية العقلية درسًا طويلًا تشهد لي به الأوراق الرسمية ومن الناحية العملية تعرفًا على مَن يعتنقون هذا المبدأ ويعطفون على أهله، (وقد كان فعلًا)، وجسمًا تعوَّد الخشونة على ضآلته. هذا عهد بينى وبين ربي أُشهد عليه أستاذي وأُسجله على نفسي في وحدةٍ لا يُؤثر فيها إلا الضمير، وفي ليلٍ لا يطلع علىَّ فيه إلا اللطيف الخبير)، فوثَّق صلته بالمجتمع، بأن شرح المقاصد والأهداف الخاصة به كما شرحها في رسالة دعوتنا بهذه الصورة، وفي نفسِ الوقت تبنَّى القضايا والمشاكل الخاصة بالمجتمع
كان الإمام البنا رحمه الله يُدرك أنَّ من أسبابِ النجاح وحدة إرادة الأمة، وهذا لا يتأتى إلا إذا كانت روح الأمة إنما تأخذ من نبعٍ واحد.ولذلك كما يقولون: إذا كانت روح الإنسان من نفحةِ الله فإنَّ روح الأمة من إنزالِ الله عز وجل يعني (القرآن الكريم) ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ (الشورى).
————————————— انتهى الجزء (5) ويتبعه الجزء السادس والأخير إن شاء الله تعالى